حين يصبح القلق سياسة غير معلنة

بقلم : هلال بن سعيد اليحيائي
رئيس مجلس مركز بهلا الثقافي للعلوم والابتكار
في عالمٍ تتسارع فيه المنافسة على الابتكار والتطوير بين الدول، فما نُصبِح عليه اليوم ليس ما أمْسَينا عليه بالأمس، وما نُمسي عليه ليس بالضرورة ما نُصبِح عليه غدًا إلا أن الغريب في الأمر، وعلى الرغم من الفرص التي حققتها الثورة الرقمية، ومن وفرة البيانات، وسهولة الوصول إلى مصادر المعرفة، وارتفاع جودة الحياة، وظهور الاقتصاد الرقمي الذي كسر الهيمنة و الاحتكار؛ فإن كل هذه المزايا كان من المفترض أن تنعكس تصاعدًا في مؤشرات السعادة والتفاؤل .
لكن المؤسف أن ما نشهده اليوم هو تصاعد مقلق في مستويات القلق والاكتئاب والخوف بوتيرة مخيفة بين فئة الشباب، وهي ظاهرة لا تقتصر على مجتمعاتنا المحلية فحسب، بل تمتد لتكون ظاهرة عالمية. إذ يشعر الشباب اليوم بأنهم أكثر تخلّفًا عن الأجيال السابقة، وهو ما أكدته العديد من الدراسات والبحوث العلمية، التي أوضحت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن مستويات السعادة، والثقة بالنفس، والصحة النفسية تشهد انخفاضًا متزايدًا، وتُرجع الدراسات العلمية ذلك إلى ظاهرة المقارنات الرقمية السلبية عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي جعلت المستخدم لا يرى العالم بصورته الحقيقية، بل وفق ما تغذّيه الخوارزميات، الأمر الذي انعكس سلبًا على التحصيل الدراسي لدى شريحة واسعة من الطلاب، خصوصًا في الدول ذات الانتشار الرقمي الواسع وهي مؤشرات تستدعي الوقوف الجاد عندها من قبل المخططين في الحكومات والمنظمات الدولية، والعمل على تنفيذ مسوحات وطنية شاملة تقيس مستويات الثقة، والطموح، والدافعية، ونظرة الشباب إلى المستقبل؛ إذ إن تراجع الثقة يُضعف الابتكار، وفقدان المبادرة يُشكّل تحديًا حقيقيًا أمام تحويل الطموحات إلى إنجازات تنموية فعلية .
إنّ ظاهرة المقارنات ليست أمرًا جديدًا؛ فالبشر بطبيعتهم يقارنون أنفسهمبالآخرين منذ القدم، وهي ظاهرة صحية ولها آثارها الإيجابية متى ما كانتمقارناتٍ محفِّزة لا هدّامة. كما أن القلق والتوتر والخوف سماتٌ طبيعية فيالإنسان، وتؤدي دورًا مهمًا في خلق توازن نفسي وسلوكي غير أن المقارنةالرقمية غيّرت كفّة الميزان؛ إذ ارتفعت مستويات الخوف والقلق إلى مراحل باتتتشكّل مؤشرات مقلقة للحكومات. وتحولت المقارنة من أداة إلهام إلى أداة هدم،وانتقلت من مقارنة بين ذوات واقعية إلى مقارنة بذوات مثالية، مدعومةبخوارزميات تُبرز صورًا منتقاة ومفلترة، بعيدة عن الحياة الواقعية .
هذه الصور تُظهر النجاح السريع بلا مسار تراكمي، والشهرة بلا زمن،والجمال بلا معاناة، ولا تُبيّن أن النجاح في حقيقته طريق طويل، مليء بالمتاعبوالتحديات، ويتطلب الصبر والمثابرة ووقتًا طويلًا إن هذه المقارنات الرقمية، التيتقوم على التظليل والتشويه عبر صور ومقارنات زائفة وغير واقعية، لا تُظهر أنالفشل سمة طبيعية في الحياة، بل تروّج لفكرة القفزات السريعة دون تحديات. ونتيجة لذلك، تُسهم في تنشئة جيلٍ محبط، عاجز عن المبادرة والإقدام، خائفمن الفشل، يبقى أسير انتظار الفرص المثالية، وميلٍ متزايد إلى التأجيلوالتسويف، والاعتماد على الإعانات بدلًا من العمل والإنتاج .
إن ما يمرّ به الشباب اليوم ليس مسؤوليتهم وحدهم؛ فالمجتمع، والمؤسساتالإعلامية، والتعليمية تتحمّل أيضًا جزءًا من المسؤولية، من خلال ما يُقدَّم منصورة نمطية للنجاح تقوم على السرعة والمظاهر، لا على التدرّج والتراكم. فنحننعيش في مجتمعاتٍ تطغى فيها المقارنات، وتزداد فيها التحليلات، وتُستعرضالتحديات، وتُناقش الأسباب، وتُعرض التجارب الدولية، غير أن مستوى التنفيذيظلّ أقلّ من المتوقع، لا بسبب قلّة الفرص، بل لأن الخوف من الفشل أصبحأقوى من الرغبة في العمل والخسارة الأكبر أن نعيش في بلدٍ آمن، تتوافر فيهالفرص، ويُبشّر بمستقبل واعد، ومع ذلك يقف كثير من شبابنا حائرين،منتظرين، متأملين، خائفين، مشوَّشين، ومشكّكين في قدراتهم؛ فنحن أشبهبحضورٍ جسديّ وغيابٍ داخليّ
وفي المقابل، نجد أن كثيرًا من المقيمين يعملون، ويبنون، ويستثمرون، ويستغلّونالفرص المتاحة، بينما يعيش الشباب حالة من السبات العميق. وهي، فيالحقيقة، أزمة كبرى نمرّ بها في هذه المرحلة، وتحتاج إلى من يأخذ بيدالشباب، وينقلهم من زمن الضجيج الرقمي إلى عالم الوعي، والمسؤولية،والبناء؛ عالمٍ يتطلّب العمل الشاق، والبدء خطوة بخطوة ضمن مسارٍ تراكميطويل، يقود في نهاية المطاف إلى بناء الثروات وتحقيق الاستقرار .
إن الشباب لا يمكن وصفهم بالكسل أو الخمول، لكنهم يعانون من فرطالمقارنات الرقمية، التي تجاوزت المقارنة بين الأفراد لتصل إلى المقارنة بينالدول، استنادًا إلى أرقام مادية مجرّدة. وهي مقارنات غير منصفة، لأنها لاتأخذ في الحسبان الأبعاد المؤسسية والثقافية فإذا أردنا مقارنة بلدنا ببلدٍ آخر،فعلينا أن نسأل أنفسنا عن الفروقات الجغرافية، والديموغرافية، والتاريخية،والسياسية، والموارد، وعوامل النمو لكل دولة. فلكل دولة نموذجها الخاصوهويتها المختلفة. وقد أكّد المفكّر توماس سويل أن المقارنات السطحية وغيرالمنهجية بين الدول تُعدّ مضلِّلة، لأنها تتجاهل الفروقات المؤسسية والثقافية بين الدول
إننا نعيش اليوم في زمن الوفرة لا الندرة، حيث تتشكّل فرص واعدة تتطلبحسن الاختيار، والتوجيه، والإرشاد. و المستقبل لا ينتظر من يراقبه عن بُعد، بل من يشارك في صناعته خطوة بخطوة. وفي عالم يتغيّر بهذه السرعة، قد يكون أكبر خطأ هو الانتظار الطويل خوفًا من الخطوة الأولى .




