اتجاهات

إعدام عاطفة

بقلم:عبدالله بن حمدان الفارسي

في الموعد تواجدت، واقفا على ذلك الرصيف البالي، الذي استشرت عوامل الزمن فيه ونالت منه، وأفقدَتَه أجزاءه المتناثرة بقربه، وتحت تلك الأيكة ذات الامتداد مترامي الأطراف، المتعانقة مع مثيلاتها مجهولات الميلاد، تزكَّم أنفي من روائح الأشجار المتنوعة التي يزخر بها المكان، المشبعة بقطرات الندى، التي تئن الأرض بين فينة وأخرى من وقع تساقطها، مكوِّنة بقعا مبتلة متفرقة في المكان، بدأ المكان يخلو من المارة رويدا رويدا، وأسدل الليل ستارته على استحياء، ليضفي على الوقت بطء التحرك، وعلى الموقع الهدوء والسكينة، إلا من ضجة خفيفة متقطعة لحركة بعض الأوراق الجافة المتساقطة، لافظة أنفاسها الأخيرة من وقع حبات الندى عليها، ودبيب بعض الحشرات الصغيرة التي تُجبَر على التحرك ربما فرارا من شيءٍ ما، أو بحثا عن مأوى مؤقت تحت ورقة شجرة عجوز، نفحات من الهواء الرقيقة ذات التناغم اللطيف الناعم، مخملية الملمس، تولد لديك شعوراً ممزوجا بالراحة على وجهك، وكأنها تحثك على المكوث في المكان، والاستئناس به والاسترسال الفكري المريح، تقوم بدور الترجمان بينك وبين من يتقاسم معك المكان والزمان، طال الانتظار وتخلف الزمن عن الوفاء، وتناوبت قدماي على تحمل ثقل جسدي الذي يميل للاكتناز قليلا بين الوقوف والجلوس، بدأت قواي الجسدية تنهار تحت وطأة سنابك القلق، ونبضات قلبي تشعرني برغبتها بكسر حاجز الموعد قبل أوانه. بالقرب مني مقعد خشبي قديم باهت الألوان، مركون تحت الأيكة التي أستند عليها، لم أعره انتباهي في بداية حضوري، بالرغم أنني معتاد على تواجده في المكان ذاته، شعور ما جعل مني متجاهلا له في ذلك اليوم، ولكن رائحته شبه النتنة، التي سببها الرطوبة المتراكمة عليه، إحدى الحواس من شاحت بوجهي إليه، لا أعرف ما الذي أوحى لي بأن انبعاث تلك الروائح في المكان تميل للتشاؤم على غير العادة، بدأ عقلي يصاب بالشلل والخمول التدريجي، نبضات قلبي كما أسلفت، بدأت تسابق عقارب الساعة، التي تباطأت في حركتها الاعتيادية، إيحاءً منها بأن زمن اللقاء ميؤوس منه، ولن يأتي، ولكن ما كان يلازمني من بقايا تفاؤل، جعل مني كائنا يرفض الخنوع والرضوخ للظروف الزمانية والمكانية، مؤمنا ومتيقنا بإمكانية تحقيق الأمل في أية لحظة، إن تضامن عقلي وقلبي وانسجامهما معا، شكلا هاجسا فريدا من نوعه من حيث الثبات وعدم الاستسلام حتى الرمق الأخير من ثواني الوقت المحدد، هذا الهاجس المبهم كان دافعا لبقائي متسمرا، ملازما لتلك البقعة الباردة حسيا من المكان دون غيرها، متحملا صرخات المكان التي لا يسمعها غيري، مرتبطا بالوقت الأعرج مهما تكالبت عليَّ المحن والصعاب، وأنا على تلك الحال من الجهد والمثابرة والصبر، وإذا بخشخشة الأوراق اليابسة الساقطة على الأرض يعلو صوتها قليلا قليلا، وكأن المتسبب في إصدار تلك الخشخشة هي وقع أقدام تجري نحوي، الأمر الذي أشعل نار القلق في أتون قلبي، وأيقظ عقلي من غفوته وسباته، وأصبح كلٌ منهما يعمل بمفرده بعد أن كانا منسجمان، فبدأت الحواس الخمس بالاستنفار، والتهيؤ لكل ما هو طارئ وغير اعتيادي، وقد كانت المفاجأة عند وضوح الرؤية نسبيا، شاب في عقده الثاني من العمر ناولني ظرفا مغلقا، وضعه بيدي في غمضة عين رغما عني، وكأني مسلوب الإرادة حينها، وأكمل سيره مسرعا، لم يدع لي فرصة التمعن في ملامحة أو هيئته، تملك جسدي الوهن، وشُلَّ عقلي، وغفت عيناي لا إراديا؛ لأن ما حدث يمكن وصفه بسرعة الضوء، وما أن استفقت من هول ما جرى، أدركت أن ما بين يدي ظرف يجب فتحه؛ لمعرفة محتواه مهما كان، فقد كانت به قصاصة ورقية، كُتب عليها باختصار دون شرح أو مبرر مقنع: (تمت خطوبتي الليلة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى