وهج الحروف

في بيت …. الثقافة العمانية “أمتشقُ الظِّلَّ لأستعيد جيرة الحي”

بقلم: حمود بن سالم السيابي

أقمتُ في القرم القديمة على بُعْدِ “عقّة حصاة” من النادي الثقافي بل “عقّة وردة” فالمسافة إلى بيت الثقافة لا تقاس إلا بالورود وأصابع البيانو وحبات المطر.
إلا أنني لجهلي لم يحفزني القرب لأدخل مبني النادي الثقافي فعدد مرَّات حضوري لأنشطته على ثرائها وتنوعها لا تتجاوز عدد أصابع اليد ، ربما لأن حارتي القديمة كانت الفناء الخارجي لمبنى النادي ، ولأنني متى ما فتحتُ دريشة بيتي في مساءات القرم شممتُ رائحة القصيدة ورعشة الفرشاة وطلاء اللوحة.
ولقد تسحَّبَ العمر وكرَّتْ حبات مسبحة السنوات بين ظلّة الصبح التي أمتشقها إلى البقالة لتلبية نواقص البيت وبين المساء الذي يتبدّد في الجريدة وتستنزفه الأحبار والأقلام ورائحة الورق وزيوت المطبعة وضحكات الزملاء وخيبات حروفي ، لأتعلل بكل ذلك دون ارتياد المكان.
إلا أن الليلة التي حلّ فيها الشاعر الكبير نزار قباني ببيت الثقافة العمانية كانت مختلفة واستثنائية ، ولعينيه كسرتُ ظلال كل الصباحات ونسيتُ نفسي ومشاويري ومساءات الجريدة فبكرتُ الذهاب لمقر النادي مع من بكَّروا لعلّي أفوز بكرسي بين قافية وقافية.
يومها عزَّ عليَّ إيجاد موطئ قدم في القاعة فاكتفيتُ بالإقتراب من سماعات الردهات وهي تبث ما يجري في القاعة بين نزار والعشاق الذين تأخّر عليهم ثلاثين عاماً كما يقول وثلاثين جرحا وثلاثين دمعة.
ولم أكن وحدي الذي لم يحسب حساب صغر القاعة وكبر القصيدة ، فهناك الآلاف الذين أسرجوا مطايا الحب إلى قوافيه ونشروا الأشرعة وخاضو البحور لشعره لنصطف في النهاية معاً في الردهات بعد أن ضاقت مرافئ العطر .
وفي هذا الصباح السبتمبري سابقتُ الخطوات إلى بيت الثقافة العمانية “واتّشحْتُ الظِّلَّ وإن غاب الأثل والبان” فدخلتْ دون أن يضغط زحام نزار ولا مساءات الجريدة لأستعيد جيرة المكان فأرى تفاصيله الغائبة.
كان موعدي الساعة العاشرة من صباح التباشير الخريفية لمسقط مع شيخ البيت وقنديله فغرقتُ من الوهلة الأولى في شوق البيت وحفاوة شيخ البيت ودهشة التفاصيل.
ما زال نزار قباني عالقاً في الزوايا وإن بعُدَ العهدُ ، وبحَّة إلقائه المميزة على حالها تملأ القاعة وهو يجاهر برغبته :
“كي يغيِّر العالم
ويمنح الأشياء بعداً خامساً
ويجعل النساء بستانا من النعناع”
هذه هي الردهة التي تقود إلى القاعة التي اعتلاها نزار:
“ليلحن الأشجار ..
والأمطار ..
والأقمار”.
وتلك المنصة التي تتكرر فيها الصور الملتقطة لهلال السيابي وعبدالله بن صخر العامري وأبي سرور وسالم الكلباني وسعيدة بنت خاطر الفارسية وأدونيس والماغوط وعبدالرزاق عبد الواحد وسيف الرحبي وعبدالوهاب البياتي وسيف الرمضاني وفهمي هويدي وسعد أردش وسعد الدين إبراهيم وحسن صعب ، بل ولصور الساسة أمثال سليم الحص وأسامة الباز وعلي الأمين المزروعي واليقظان بن طالب الهنائي وأحمد كمال أبو المجد.
وهذا البيانو بخشبه الأسود كالعهد به يقتات مكانه في إنتظار الأنامل التي ستجيئ لتردم غياب عامين كان فيهما “كورونا” هو كاتب النوتة الرديئة والمايسترو المُرَجْرِج للأحزان والعازف النشاز والمستمع الأوحد لنفسه.
أصعدُ بصحبة شيخ بيت الثقافة العمانية الأستاذ الدكتور محمود بن مبارك السليمي رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي ونائبه الأستاذ الشاعر عبدالرزاق الربيعي إلى السبلة “الفوقية” المفتوحة على الحديقة الطبيعية وحارة القرم ودرايش بيتي القديم.
وعلى رطبات من الخصاب ظننته من الفيحاء ولم يكن كذلك فخصابها بلون العقيق ونكهة الشهد تدفقتْ أمواه السمدي ودجلة في حوار الشيخ الرئيس ونائبه ، وتلاقت “فروض” سمائل الفيحاء ب”قوصرة” البصرة الفيحاء.
شعرتُ بود المكان وجيرة الحي فهذا الوجْه الباسم للشيخ الدكتور السليمي يتكرر في الوجوه التي نحبها ، فهو ابن السبلة العمانية وشاهد العصر لحكاياتها ، وما أن تبدأ الحكاية إلا وينهيها.
والشيخ السليمي هو ديوان الشعر العماني ولمجرد أن يتلعثم اللسان بصدر البيت إلا وعجزه على لسان الشيخ السليمي فهو دوما الشطر الثاني لبيت القصيد.
جلستُ أمام الشيخ الدكتور محمود السليمي كتلميذ يشهد غربة اليوم الدراسي الأول ودهشة الصف والوجوه واللوحات والسبورات والطباشير.
مرَّتْ دقائق بددتها دماثة خلق الشيخ وتوازنتْ فيها الأشياء ليبدأ العام الدراسي وأنا أتحسَّر على ضياع ما سبق من الأعوام الدراسية لتأخري في التسجيل فكنت الأحرى بترديد قول نزار “تأخرث عليكم ثلاثين عاما ثلاثين دمعة”، بل لأقول تأخرتُ مليون عام ومليون دمعة.
وهذا كتيبي “مصابيح الفيحاء” يستعر غياب مثل هذه الجلسة قبل الصدور وقبل أن “يأكلني ويأكله الغبار”.
وهذه فتائل مصابيحي كانت بحاجة لمثل هذه اللقاء لإطالة العوم في الزيت.
حتى زجاج “شمليات” المصابيح هي الأحوج لمثل هذه الزيارة لاكتساب الصفاء ولزيادة درجة السطوع ولتصحيح بوصلة الضوء.
كما أتحسر بنفس القدر لعدم الاقتراب من نائبه الشاعر عبدالرزاق الربيعي سليل نحاة الكوفة والبصرة والقادم إلينا من كرادة مريم ومضايف القصب والأبوذيات والهوسات والشاي المهيّل ، فالجلوس مع أمثاله إثراء.
زاحمتْ الدقائق الدقائق وتدافعتْ الساعات والساعات والشيخ الرئيس ونائبه يستبقان مجيئ ٢٠٢٢ ليثأرا من توقف الوقت وتعطل الأنشطة لعامين متتاليين بسبب كورونا بإعداد خطة ثقافية طموحة لتعويض ما فات.
وعند الهزة الأخيرة للفنجان فررتُ من تلاطم مياه أنهر عمان وأرض السواد بين الرئيس ونائبه لأمرّ بمرافق بيت الثقافة العمانية كالمكتبة وورشة المسرح وقاعة الفنون.
وعند منحوتة المجد للنحات السوداني بكري الفل والتي تهشم جزء منها وحُزَّ رأس حصانها لثقل الحجر العماني ودَّعْتُ الشاعر عبدالرزاق الربيعي وأنا أستعيد أبياتا له من قصيدته “خيول” سبق وأهداها للنحات أحمد البحراني :
“خيوله المسافرة
ترفع للسماء قبضة
من الصهيل والعويل
كي يفقس الشروق
من بيوض شمس نافرة
***
خيوله المحجلة
تصغي لوقع نبضه
تستاف من فرشاته
الحمراء والزرقاء والصفراء
جمر الأسئلة”.
———————————
مسقط في الثاني والعشرين من سبتمبر ٢٠٢١م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى