المقالات

ثمن الحرية

بقلم:د. رجب العويسي

يبدو أننا اليوم أمام منظور جديد في مفهوم الحريات، انتقلت من الفردية إلي الجمع، ومن ذاتية الأنا إلى أن اصبحت معيارا يتفاعل الجميع لتحقيقه، وبلوغ منصاته وخلق مساراته، بل انكشفت مقاصد دعاة الحريات والمروجين لها، فهي ليس أن تمنح الفرد حرية التعبير عن رأيه، أو تمنح المرأة فرص أكبر في التنمية، أو أن تتيح الفرصة للجميع للمشاركة في القرار السياسي، فهذه حقوق موجودة بالفطرة، وحقائق ممارسة برغبة الإرادة، ولا يوجد في مجتمعات الأرض من لا يمارس هذا الدور في القديم أو الحديث، لم تعد المسألة اليوم هي البحث عن نطاق أوسع ، ومساحات أكبر للمواطن بقيود أو بدون قيود، في اللبس أو الكلمة أو القلم أو التعبير، بل في الأجندة الترويجية التي ترتبط بهذه المفاهيم المغلوطة التي أدخلت عنوة في خطوط التماس بأمن المجتمعات، والمناهج أو الأهداف الخفية التي تقف خلفها، والتي أصبحت تحمل في جوهر عملها بذور الفتنه وزعزعة النسيج الاجتماعي، وفرض واقع جديد يقوم على التجاذب بين أطراف البيت الواحد، مما يعني أهمية أن تتحول قراءتنا للحريات إلى مرحلة متقدمة من الوعي المجتمعي، في سبيل تأكيد قدرة الأوطان على امتلاك البدائل والاستراتيجيات في التعامل مع الحالات الطارئة، وإدارة مستقبلها القادم، عبر بناء جسور التكامل، وتعميق الشراكة بين المواطنين والقيادة ، في التعامل مع مضادات الحرية ومنغصات الأمن الوطني، ومهددات اللحمة الاجتماعية، التي باتت اليوم المستهدف الرئيسي من كل صيحات الحريات، ودعوات التعاطف مع الإنسان، واستشراف غد أفضل يضع المجتمع فيه قواعد الانتاج، ويبني خلاله محطات العطاء، ويستثمر في موارده وامكانياته بشكل يمنحه قوة مواجهة حالات التهميش أو الاقصاء أو التجويع أو الحصار الذي قد يحصل له في أي وقت، في ظل زوال محددات الإنسانية والأخلاق في موازين العلاقات الدولية، لقد بات من حق الحريات في ظل المفهوم الضيق الذي رسخه الاعلام السلبي المسيّس في نفوس الشباب ، أن تنال من حق الأوطان، وتنسف قدسية عطائها، في ظل سرعة أحكام ونشر للشائعات أفقدت الإعلام بريق عطائه وأساس أولوياته وقيمة رسالته الأخلاقية الداعمة لوحدة الأوطان وحريتها وكرامة الإنسان، لتستبدل هذا الدور بممارسات لا أخلاقية، تنثر بذور الشحناء والفساد والإفساد في محاولة منها لتعميق هوة الخلاف بين من يحملون وحدة المبدأ وقيم المشترك في الأهداف والأولويات والتأريخ والتحديات، وتنميط الاختلاف على أنه حالة تتجانب وروح التكامل، وتبتعد عن مقصد التقارب، لقد دفعت الأوطان ثمن الحريات، فلم تعد محاولات الإقصاء والتهميش والحصار والتجويع، ترتبط بشخص دون آخر، بل جريرة ألقيت تبعاتها على دول بأكملها وشعوب عانت ويلاتها، وهي سابقة خطيرة تنذر في المقابل، بتحولات يجب أن تصنعها الأوطان في البناء الفكري والعقائدي لأجيالها، في الوعي بأهداف هذه الدعوات ومقاصدها، وآليات التعامل معها، عبر تكاتف أفراده وتناغم أولوياته في مواجهة التحديات، والوقوف صفا واحدا أمام ما يراد أن تصل إليه المجتمعات من انتكاسة وخضوع، واستنزاف قوى الوطن وموارده، وإحداث شرخ في الأفهام، وخلاف أعمق في وجهات النظر، ليجد فيه دعاة الحريات باسم الطائفية والمذهبية والفئوية والمناطقية فرصتهم في إعادة رسم خريطة التغيير.
من هنا كان علينا جميعا كأفراد ومجتمعات أن نقرأ الحرية في ثوب التلاحم والتكاتف والتضامن مع الوطن، مبادئه وسياساته وقوانينه وتشريعاته، وقياداته ومؤسساته وموارده وامكاناته، وشموخه وعزته، تلك التي تضع الوطن في جاهزية العطاء والانجاز، تبني وتتطور، وتنتج وتتقدم ، ليكون لها القوة والصدارة، فحريتنا عندما نضع أوطاننا هدفنا، وعطاؤنا مسخّر لخدمتها، ونجاحنا من أجل تعزيز بنيتها، لنصنع منها قوة في مواجهة التحديات القادمة، التي أصبحت ماثلة للعيان، ظاهرة لكل ذي عين مبصرة، مما يعني أهمية إعادة برمجة فكر المواطن بطريقة يستطيع خلالها التمييز بين هذه الدعوات، وتفنيد الأوهام والخرافات والأكاذيب التي لا تصب في صالح الشعوب، وهكذا ضيع المفهوم الفضفاض للحريات قيم المواطنة عبر تعميق الخلاف وترويج الإشاعات، وتضليل عقول الناس، حتى اتجهت عقول البعض منهم إلى تقمص سلوك الارهاب وإشاعته والفكر السلبي الذي لا يحفظ للمروءة أي قدر ، ولا يضع للكرامة أي وزن، وها هو العالم اليوم يكشف في كل حادثة خلاف بين بلدانه، هشاشة هذه الدعوات وسرعة تلاشيها أمام قيم الوطن الثابتة ومبادئه الصادقة، وأن ما أوهمت به الشعوب عبر مثقفيها وشبابها ونسائها نحو أوطانها من قضايا الفساد والحريات، لم يكن سوى مدخل لإبعادها عن أولوياتها في العمل والانتاج والعطاء من أجل الوطن، وتضييع الوقت في البحث عن آلية التعامل مع هذه الحريات وتوفير الموارد لها، والمزيد من التنازلات التي تدفعها الأوطان والحكومات من أجل إبرازها حتى ولو على حساب هويتها وأمنها واستقرارها.
إن ثمن حريتنا ينطلق من القيمة المضافة التي تمتلكها أوطاننا، في جاهزيتنا واستعدادنا لمنحها قوة التعامل مع كل أشكال الاغتراب، وتجد في جمع أبنائها وتكاتفهم من يفكر في وحدة البيت الخليجي الواحد وبقائه شامخا في وجه التحديات الداخلية والخارجية، كيف نعمل على لم شمله، أو إعادة ترتيبه، أو نضمن قوته في مواجهة المتربصين به، في عالم أقصت فيه المصالح ضمير الإنسانية ومصداقية المبادئ، إن حرية الأوطان أكثر من أن تباع في مزاد الربح والخسارة ، أو ينظر إليه في مجرد حقوق منتهية، أو سمسرة عقارات مربحة، أو أن تُقرأ في امتيازات أو ترقيات أو عطاءات؛ بل أن تمتلك أوطاننا كل الخيارات والبدائل لضمان إدارة كل الاحتمالات، والتعامل مع كل المعطيات القادمة، بدون ضغط من أحد، أو محاولة فرض الوصاية عليها من قريب أو بعيد. وهنا سيكون علينا الاختيار بين أن نحصل على ثمن الحرية في عزة أوطاننا وضمان وحدتنا وقوة انتاجنا ورقي ممارساتنا، أو أن ننتظر مدد النصيحة وطريقة العمل من الآخر، لنتصارع أكثر فأكثر، فنظل ننبش قبورنا بأيدينا، ونسيء إلى أوطاننا بأفعالنا، ونحن غارقون في أوهام وأفكار يكشف واقعنا المعاصر، زيف ما يجري في عالم الحريات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى