المقالات

الاعتبار بالمآلات

بقلم: مسلم بن أحمد العوائد

يُعد فقه المآلات من القواعد الشرعية في الإسلام، ويهدف إلى إدراك عواقب القرارات المهمة في حياة الفرد أو المجتمع أو الأمة. ويُقصد بالمآلات توقُّع نتائج الأفعال، سواء كانت إيجابية أم سلبية، من خلال تحليل معطيات الواقع واستشراف المستقبل، بعيدًا عن تأثير العاطفة أو الخلافات الشخصية.

وفي ظل التحولات والمتغيرات العالمية السريعة، الدول والمؤسسات والمجتمعات، بل والأفراد، في حاجة ماسة إلى فهم فقه المآلات، لما له من ضرورة قصوى في تحليل الواقع لاتخاذ القرارات الرشيدة، وتجنب الخيارات التي قد تؤدي إلى عواقب كارثية.

هذا قبل…
اما بعد..

لفهم قاعدة مآلات الأفعال، نستشهد بحادثة “فتنة القُرّاء”، حين خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على أمير العراق، الحجاج بن يوسف الثقفي. والحجاج معروف ببطشه وقسوته وظلمه على الناس عامة، وقائد جيشه الأشعث خاصة، رغم الانتصارات التي حققها الأخير على جيش الترك.

بدأت الأزمة عندما رفض الحجاج قرار الأشعث بإعادة تنظيم الجيش ومنحه فترة راحة لعلاج الجرحى ورفع المعنويات، إضافة إلى ترتيب شؤون الولايات المفتوحة، ثم استكمال الفتوحات في وقت يقدره القائد العسكري من الميدان. لكن الحجاج قابل هذا القرار بالتوبيخ واتهم الأشعث بالجبن والتخاذل. لم يتحمل الأشعث هذا التصرف العدائي غير المبرر من القيادة السياسية، فقرر الخروج على الحجاج، وبدأ ذلك بمعية جيشه الذي يبلغ نحو مئة ألف، وانضم إليه عدد من التابعين رحمهم الله، ثم ما لبث أن أعلن الخروج على الخليفة عبد الملك بن مروان.

وقد انتهت هذه الفتنة بهزيمة قاسية للاشعث، فهرب إلى ملك الترك الذي كان يحاربه وانتصر عليه سابقا، الذي غدر به وأرسله أسيرا إلى الحجاج، ويقال انه انتحر في طريقه الى العراق.

لقد كانت مآلات افعال الأشعث خاطئة، بل ونتج عنها مفاسد عظيمة على نفسه، وعلى جيشه، الذي تحول من قتال الكفار الى قتال المسلمين، حيث قُتل عدد كبير من المسلمين والعلماء، ونالت من سمعة الدولة الإسلامية جراء هذه الفتنة.

اخيرا…
لم يتجاوب صحابي واحد مع الأشعث ومنهم الصحابي أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفضوا الخروج على الحجاج، رغم أنه هدم الكعبة، وقتل العلماء، وبعض الصحابة. ولم يكن هذا رضا منهم بأفعال الحجاج، بل طاعة لله ورسوله، وحرصا على حقن دماء المسلمين، وحفظا لهيبة الشريعة الإسلامية والدولة والسلطان. ذكّروه بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذات الشأن، لكنه لم يسمع ولم يطع، فخسر الدنيا والآخرة، ومات ميتة الجاهلية.

وانظر إلى اعتبار وحساب المآلات المبنية على قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وخاصة الشخصية، في رسالة المهلب بن أبي صفرة إلى الأشعث، حيث قال:
“فإنك قد وضعت رِجلك يا ابن محمد في غرزٍ طويل الغَيّ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. الله الله، فانظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: أخاف الناس على نفسي، فالله أحق أن تخافه من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دمٍ أو استحلال محرم. والسلام عليك”.

ختاما…
يقال ان أولى مراتب العدل هي أن ينشغل الإنسان بإصلاح نفسه بقدر ما ينشغل بإصلاح غيره. ولكن نجد اليوم من يعتقد انه ينشغل بإصلاح الأُمة!، من خلال الترويج لعدم السمع والطاعة لولاة الامر ، متجاهلين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، وفعل صحابته الكرام، ومآلات الخروج على ولي الأمر، حتى وإن كان مثل الحجاج. العجيب أن بعض أولئك القوم واهلهم وفئتهم يعيشون في بحبوحة من العيش تحت حكم ولي الأمر الذي يروجون لعدم السمع والطاعة له.
إن مفاسد الخروج على ولاة الأمر خطيرة للغاية، والتاريخ القريب والبعيد يشهد على ذلك.

فلم يحصد المسلمون من الخروج على ولاة الامر الا؛ هلاك النفوس، وسفك دماء المسلمين، وتفريق جماعة المسلمين، والنيل من هيبة الاسلام والدولة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى