المقالات

مساحات الأمان

بقلم:د.رجب العويسي

 

في واقع حياتنا اليومية المملوءة بالصخب والضجيج، والتسارع والعجلة، يبقى علينا البحث عن فرص للهدوء ومساحات للانتظار والتأمل، وخلق مساحات أكبر للأمان التي نتركها أمامنا، لتكون لنا مرحلة جديدة في إعادة صياغة انطلاقتنا من جديد وتعاملنا مع المستجد في حياتنا بروح رضية وفهم واع ورؤية دقيقة، تمنحنا قوة الارادة ومنهجية التغيير، وتبصّرنا بأسلوب العمل القادم الذي يتناسب مع طبيعة الحالة ويتوافق مع مستجدات العمل، ويتناغم مع نوعية البدائل التي تحتاجها وفق الظروف المتاحة، والمؤثرات المساهمة، والتعامل معها بروّية واتزان، وادارة الواقع بطريقة تبقى مشترك الفهم ممدودا وحبل التآلف مشدودا، بالشكل الذي يجعل من مساحات الامان التي يضعها امامه فرصة لإعادة تقييم مداخل العمل وموجهات الممارسة، ومنطلق يجّنبه حجر العثرة ويردعه عن الوقوع في المحظور، لتبقى مساحات الامان، تعبير عن شعورنا بقيمة ما نفعل ، وأنّ تحقيقه سوف يضيف لنا وللآخرين من حولنا أبعادا متجددة في حياتنا وحياتهم الشخصية والمهنية، تنقلنا إلى مستويات الشعور الجمعي بمسؤولياتنا في الحياة، وإدراكنا لما يتطّلبه منا وطننا، ويعزز فينا ينابيع الأمل ونوافذ العطا، ويمنحنا قوة الثقة بالذات بأننا لسنا لوحدنا في هذا العالم، لذلك سيبدو واقعنا جميلا في محطات الحياة، لأننا ندرك قبل أن نكتب أو نتحدث أو أن نمارس فعلا يرتبط بغيرنا، أنه مرّ بعملية فلترة ذاتية، وانتقاء لا تشوبه أي شائبة تعكّر صفوه، فعندما نكتب أو نتحدث أو نمارس أدوارا في حياتنا الشخصية والوظيفية والمهنية وغيرها ، نهيئ أنفسنا بهذه المساحات من الأمان لنمنح لعطاءنا قيمة ونصنع له وزنا، وليبقى امتدادنا الذي نبني عليه مسارات الحياة ، لنبني على مساحات المشترك بيننا حنين الود، كمنطلق لفهمنا لذاتنا والعالم من حولنا، لذلك بات البحث عن مساحات الامان اليوم، أقرب ما تكون إلى تلمس الجودة في العمل، والقوة في المنهج، والثبات في المبدأ، والدقة في الاختيار، والصدق في المنجز، فهي المنقذة لنا في علاقاتنا مع الآخرين، نفهم ذائقتهم ومزاجياتهم، ونرتقي بتعاملنا معهم، لتضعنا أمام تقييم تجربتنا في الاقدام على العمل، بل محطة نستأنس بها للوصول إلى بر الأمان في حياتنا اليومية.
عليه كانت مساحات الأمان هي طريقنا لمنع الاصطدام القسري ، وإعطاء النفس مرونة أكبر للمراجعة وإعادة رسم خريطة الاشياء من حولنا، نفهم ما نريد أن نقول أو نفعل، وندرك المدخل الذي نبدأ به، والنتائج المترتبة عليه، وكيف سيقرأ الرأي العام ذلك ، وردود الأفعال السلبية المتوقعة، والانحرافات التي قد نوجِدها أو الثغرات التي قد نتسبب فيها، لنصطدم بواقع مغاير أو بسلوك مخالف أو بقناعات قد لا تكون في الحسبان، لنتحول من أشخاص مندفعين إلى متحكمين في عواطفهم، مركّزين في اهدافهم ، واضعين لأنفسهم فرص أكبر للتفكير واتخاذ القرار، لذلك فنحن حتما بحاجة إلى مساحات الأمان في حياتنا الشخصية والمهنية، وأن تسلك مؤسساتنا هذا المسلك، حتى نستطيع أن تبني قراراتنا في إطار من الهدوء والحكمة بعيدا عن الشخصنة، أو استلطاف لسد فجوة أو ملئ فراغ، بل أن تكون هذه المساحات فرص استجلاء للنفس، ومحطات لتدارك الخلل وتمهيدا لعمل أكبر قدسّية في عطاياه، وأعظم مهنية في غاياته، لتتسع حاجتنا لمساحات الأمان في التعامل مع خصوصياتنا الذاتية، في تعاملنا مع أسرنا وأطفالنا وبيئاتنا والمجتمع من حولنا، في طريقة استخدامنا للتقنية ، وإظهار شخوصنا في شبكات التواصل الاجتماعي وطريقة استخدامنا لها، في حفاظنا على ممتلكاتنا الخاصة، وهوياتنا الشخصية وبطاقاتنا الائتمانية والبنكية ومستنداتنا الرسمية، في حفاظنا على بيوتنا ومواردنا وثرواتنا، في إدراكنا لمسؤولياتنا كمثقفين وكتاب وصحفيين واعلاميين ومتحدثين وقانونيين ونشطاء اجتماعين وآباء وأمهات ومعلمين ومتخذي قرار، في حدود الكلمة التي نكتبها في صفحاتنا الشخصية، وأقلامنا التي نُعرف بها في الآخرين، وفي حديثنا عن وطننا، واحترامنا لرموزه وادراكنا لمسؤولياتنا نحوه، في انتقائنا واختيارنا للبدائل التي نصنع من خلالها واقعنا الحالي ومستقبلنا القادم، في طريقة اجابتنا عن التساؤلات المطروحة من حولنا، وتعاملنا مع الأخطاء، في قيادتنا للمركبة، واستخدامنا للموارد الوطنية، واستمتاعنا بجماليات هذا الوطن وبيئاته السياحية، في استخدامنا للطرقات، وتعاملنا مع الشائعات، في أحكامنا المسبقة حول ما يثار من هنا وهناك، وما يصل إلينا عبر الواتس اب، أو ما يُتناقل في شبكات التواصل الاجتماعي، في طريقة تحليلنا للقضايا العامة، وتعاملنا مع الاختلاف، واستيعابنا لتعدد الآراء.
من هنا فمجمل حياتنا بحاجة إلى مساحات أمان، نصنعها بأيدينا، ونبنيها في ظل اقتناعنا واختيارنا، وإدراكنا للقيمة المضافة لهذه المساحة في مستقبل حياتنا، إنها بحق مدخل لرسم خريطة التغيير القادمة في نفوسنا، لندرك خلالها أن مساحات الأمان، أمانٌ لنا وحفظٌ لهويتنا وماء وجوهنا وخصوصيتنا، ولنقف برهة في ما نريد أن نصنع لمستقبل أيامنا، منعا من الاحراج ووقاية لنا من التعسّف، وبُعدا عن مكامن الريب أو مزالق الشطط التي قد نقع فيها بدون تبصر أو انتظار، إن مساحات الأمان التي نصنعها لأنفسنا وندركها في ممارساتنا جزء من توطين النفس وقدرتها على إدارة قواعد الممارسة، واحترام المساحات الشخصية للآخرين، لنتحول خلالها من دائرة الأنا والأنانية والأثرة والذاتية؛ إلى مرحلة أعمق اتساعا وأكثر انفتاحا، لنعيش في ظل مساحات الأمان فرص حياتنا المتعددة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى