المقالات

مهاتير محمد بوصفةٍ عُمانيّة

بقلم:د. رجب العويسي

تعمدّت تأخير نشر هذا المقال، نظرا لسيل الكتابات والتغريدات والتأويلات والتفسيرات، الذي واكب زيارة رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد، والتي أثارت العديد من التساؤلات في ظل سلسلة المحاضرات التي ألقاها والاحاديث الصحفية التي نشرت له، ولست هنا في معرض الخوض في تفاصيل ذلك، بقدر ما هي لطيفة تقرأ ما تحدث عنه البعض، من أننا بحاجة إلى مهاتير محمد في عمان لتعزيز قوة التنمية الوطنية والاستراتيجيات الاقتصادية التي تتجه إليها، ونقول: بأن منطلقنا في عمان واضح، ومداخلنا في إدارة التطوير واقعية، ومنهجياتنا في رسم ما نريد معروفة، وطريقتنا في التعامل مع التطوير البشري مشهود لها، نستفيد من الآخرين وتجاربهم، نقرأ ما لديهم، ونفهم ما عندهم ، ونأخذ ما توافق مع هويتنا وأطرنا الوطنية ، ونبني على ما وجدناه عندهم مناسبا، سلوكنا المؤسسي القادم، هذه المنطلقات حاضرة وما زالت في كل مراحل النهضة، لذلك اتسمت رؤيتنا لمفهوم التطور الإنساني بالهدوء والاستيعاب والتوازن والبساطة الواعية المرتكزة على ربط إنسان هذا الوطن بمقومات حضارته وبمبادئ نهضته، فعندما بدأت النهضة استعانت عمان بخبرات مختلفة استفادت منها في رسم مسيرة العطاء والانجاز ، ولكنه بعد أن تعلّم الإنسان العماني وتدرّب وتخرّج، كان حضوره أولوية، ووجوده المقدّم على كل شيء، وحاجتنا اليوم ليس إلى شخوص خارجية، بقدر ما نحن بحاجة إلى الثقة في ذاتنا، والقناعة بقوة ما نملك وجديته، عندما نفتح لهذا الرصيد باب العطاء ممدودا ومساحات التغيير المقننة واقعا يجده إنسان هذا الوطن في سلوكه العام وممارساته ومؤسساته، تلك الُنهُج التي رسّخها وأثبت حقيقتها واقعا عمليا مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم حفظة الله ورعاه، فإن المتتبع لكل المبادئ والأفكار الاستراتيجية والرؤى التطويرية في الاقتصاد والمال والادارة، والتحول في صناعة الإنسان والاستثمار فيه والتنمية، وبناء القدرات وتطوير الموارد، وتطوير المواهب ، والاستراتيجيات القائمة على التمكين والتعمين والتوطين، والانتاجية والمواطنة الايجابية وغيرها، يجدها حاضرة في فكر جلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه ، حضور القلب والعقل والممارسة، فهو من الرقي والمنهجية والمهنية والذوق والمرونة والإنسانية والعالمية والتطوير والتجديد، ما يبهر كل ذي لب ،ويٌسمع كل ذي أذن، ويتأمل حجم هذا المنجز كل ذي بصر وبصيرة، أنموذجا حضاريا اتسم بالشمول والتكامل والتوازن والتجديد في مسارات الحياة المختلفة ومحددات الدولة العصرية، الساعية لبناء الإنسان العالمي الطموح والتفكير والممارسة، والمواطن: الهوية والمبادئ والأخلاق، في تفاعل هذا الإنسان مع كل أحداث العالم، ونظرته لمتطلباته وغايات وجوده، فشكلت واقعا عمليا وفكرا ناضجا، بنيت عليه مقومات النهضة، وبدت في ثوبها الراقي المطرز بجمال عمان وصدق مبادئها ووفاء إنسانها.
من هنا يمكن القول بأن ما طرحه دولة مهاتير محمد، من أفكار واستراتيجيات دولة في الإدارة والاقتصاد والمال وبناء الإنسان والاستثمار في الموارد، وغيرها، موجهات كان لنا فيها موقع وحضور على صعيد السياسة الوطنية والخارجية التي انطلقت منها نهضة الثالث والعشرين من يوليو المجيد، ولم يكن من شك بأن الفارق لم يكن في الفكر والرؤى الموجهة لإدارة التنمية، بقدر ارتباطها بالممارسة ، التي كانت بحاجة إلى مزيد من الضبط والتوجيه والرقابة والتقنين والريادة، ووضع الأدوات المناسبة لها القائمة على قوة التشريع وجاهزية القوانين وصرامة الأوامر وتحقيق المحاسبية الفعلية في الاداء ، والقوة في تحمل المسؤوليات ومواجهة أي انحرافات قد تسيء للتنمية ، والبحث عن ضمانات تُبقي وجه العطاء مشرقا بالإيجابية، مصونا بالقوانين النافذة في وجه كل من تقاعس عن اداء المهمة، أو تسبب في إضاعة حق المواطن، وهي ترتبط بدور المواطن نفسه وسلوكه وقدرته على تلقي هذه المبادئ وفهمها واستيعاب محاور عملها عبر التوجيهات الوزارية ومسؤوليات رؤساء الوحدات الحكومية والخاصة، والقيادات الوطنية المعنية بنقل هذه التوجيهات السامية للواقع، وهو ما نعتقد أننا بحاجة إلى تأكيده عبر استراتيجيات عمل دقيقة، وجاهزية مؤسسية فاعلة تقرأ التجربة الماليزية بمهنية، ليتقدم السؤال “كيف” أجندة كل اللقاءات والمناقشات والحوارات والتقارير والتحقيقات والمقابلات والمحاضرات واستراتيجيات العمل التي قدمها دولة الرئيس مهاتير محمد في فترة وجوده بالسلطنة، في طريقة إدارة اقتصاد الدولة الماليزية ومواردها من خلال الماليزيين انفسهم وطريقة تعاطيهم مع هذه الأفكار، وكيف استجابوا لهذا التحول، وما دفعوه في سبيل ذلك من تضحيات، ونعتقد بأننا في عُمان نمتلك ذلك وأكثر، فلدينا الأدوات، ومعنا الإنسان الذي يُنتج ويُعطي وُيبادر، فقد تدرّب على التضحية والفداء، وواجه الحياة بإرادة ووعي، وانطلق بشموسه يضيء الحياة جمالا وجلالا، فساد العالم بقوة علمه، وخاض البحار بعظيم صبره ، وتعلم وعلّم بنبوغ ذكائه ونفاذ بصيرته. وهي مسؤوليتنا اليوم جميعا كعمانيين رجالا ونساءا، شيبا وشبابا، مسؤولين وموظفين، قيادات الدولة ووزرائها ومستشاريها وجميع العاملين من أبناء وطني، لنجد ذلك في إنهاض همم الاجيال القادمة ، كيف تعمل وتنجز وتعطي بلا توقفـ، كيف تنظر للهوية وتقرأ الرصيد الفكري العماني والتراث الضارب في جذور التأريخ، كيف تستفيد من منهجيات الإدارة ومفهوم الضبط والرقابة، بما يضع حدا لكل التجاوزات الفردية التي تسيء للإنسان والدولة والتنمية، وتقلل من قيمة الموارد، إنها موجهات بحاجة إلى أن نضع آلية عمل وطنية مقننة تضبط مسارها، وتوجّه عملها، وتشخّص كل أسباب القلق او التخوف لدى الأجيال نحوها بشكل سليم، عبر إعادة صياغة ممارساتنا الفعلية، ونسأل أنفسنا لمزيد من جلد الذات: هل طبقنا التوجيهات السامية، هل نفذنا هذه الأوامر، هل اقتربنا من الفكر السامي ، هل ما نصنعه الآن لدينا موجهات نحوه وأوامر حوله، ثم لماذا لم نقم بتنفيذ تلك الأوامر والتوجيهات بشكلها الصحيح؟
عليه فنحن بحاجة إلى وقفة متجددة لنعالج مشكلة التطبيق لدينا، وأسباب الخلل في ممارساتنا، لسنا بحاجة إلى مهاتير محمد لشخصه، بقدر ما نحن بحاجة إلي من ينبهنا إلى أننا نمتلك خيرا عظيما ولكن تقصيرنا نحوه أكبر، ليضعنا أمام تحدٍ مع ذواتنا، وإشعار أنفسنا بالتقصير فيما أنجزنا من أجل وطننا، كيف نرتقي بممارساتنا وننقل التوجيهات السامية إلى واقع يمشي علي الارض، والتزام يحكي مسار طريق لن ينقطع، فالعلاج بأيدينا ما دام لدينا هذا الحماس والتصفيق لما تحدث عنه دولة مهاتير محمد، وهو لم يملك العصا السحرية، لكنه وجد في المسؤول والعامل الماليزي من سانده لتحقيق رؤيته، وبناء منهجيته، وتطوير إدارته، وتوجيه بوصلة العمل بها، وفق مسارات التزم بها الجميع، ووعاها كل المعنيين بالتنفيذ والمتابعة والتصحيح والمراجعة والتقييم، نحتاج لأن نكون خلية نحل نعمل معا، وندرك مسؤولياتنا معا، ونعترف بأننا مقصّرون معا، وتبقى إجابتنا عن التساؤل: كيف ننقل هذا التحول في قراءتنا لفكر النهضة العمانية، – بعد الذي سمعناه على لسان دولة مهاتير محمد – إلى التزام يمشي على الأرض؟، هو ما يمكن أن يصنعه إنسان هذا الوطن بكل شرائحه ومسؤوليه في قادم الوقت، لنصل إلى قناعة، بأنّ ما كان يمارسه مهاتير محمد؛ إنما هو نكهة من “وصفة عمانية خالصة”، وصدق مولاي المعظم، وهو يصف هذه النهضة قائلا:
” لقد بدأت النهضة العمانية من الصفر، والآن هي أرقام نفخر بها، ويفخر بها شعبنا الذي تعاون معنا، حتى أصبحت بلادنا ملء السمع والبصر، وحضن وحصن المواطن العماني، وكل من يعيش فيها أو يزورها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى