المقالات

قدرات معطّلة

بقلم:د. رجب العويسي

في أروقة المؤسسات، تُحتضن الخبرة، وتُبني القدرات، وتصقل المهارة وتصنع التجربة، وترسخ القيمة، ويؤصل الوعي وينمو الابتكار وتنطلق الموهبة، وتعزز في الموظف خصائص مهنية راقية، فمنهج العمل يأتي وفق معايير الأداء ، وإدارة الوقت وحسن الإنجاز في ظل فهم لمقتضيات المهام والمسؤوليات، فالأصل في المؤسسات أن تكون منطلقا لتوظيف القدرات وتعميق الاستفادة من الملكات الفكرية والخبرات المهنية، لتبني في ذات الفرد مسارات التفوق في الاداء، والتعليم بالخبرة المستديمة المتجددة، وتطبيق التجارب وتدويرها وإعادة انتاجها وتقنين مصادرها، ونقل التغيير إلى صورة الواقع المكبرة حسّا ومعنى، ممارسة مهنية واعية، وسلوك مؤسسي يتناغم مع مستجدات التطوير، والقدرات البشرية للمؤسسة المحرك الأساسي لكل التفاعلات الحاصلة، وسبرها والتعمق فيها وتحويلها إلى منتج نوعي تبني عليه مسار العمل القادم وخطط التطوير اللاحقة ، وتقرأ خلالها هويتها المهنية وسلوكها التنظيمي الذي يضعها أمام منافسات قوية، عنوانها صناعة الإنسان: القدرة والقدوة، ووسيلتها: تمكينه من إدارة محور التغيير وبدائل التجديد، لذلك لا وجود في قاموس العمل بها لتعطيل القدرات، لأنها تدرك حق الجميع بالمشاركة في الإنجاز ، وواجب ترك بصمة واضحة في نوعية المنجز، ولأنّ لكل منهم اختصاصه الوظيفي المقنن ومهام عمله المحددة، وأدواره التي يقوم بها أو يشترك مع الآخرين فيها، فيصنعه في ثوب المؤسسة القادم، ولحنها المتجدد المتناغم مع رؤية التطوير، والمتفاعل مع جاهزية الممارسين والمنفذين والمستهدفين، إذ تحمل في ذاتها معاني التجديد والتسامي الفكري والتناغم المعرفي وتمهين إدارة استراتيجيات العمل عبر التشخيص والتحليل والحدس بالتوقعات، – حاجة مؤسساتنا إلى مراكز متخصصة لتحليل السياسات ورسم أطر التطوير وموجهات العمل-، لتنطلق قراراتها في قوة ، وتتجه مرئياتها إلى التطبيق بكل سلاسة وأريحية.
إن ما يؤسف له، أن باتت مفاهيم البيروقراطيات، والروتين السلبي، والترهل الوظيفي، والتكدس فوق الاحتياج، والإقصاء والتهميش، أو الأوراق الزائدة أو غيرها، مستساغة متداولة، ترددها ألسنة من يرسمون السياسات أو يمتلكون قلم التغيير من رؤساء الوحدات عبر التصريحات واللقاءات والاجتماعات والجلسات، مع أننا نعتقد بأنها لا ينبغي أن يكون لها ذكر في سقطات اللسان، عوضا عن وجودها في أروقة العمل، وهي بلا شك غير حاضرة في مؤسسات تعمل وفق استراتيجيات واضحة، وأنظمة أداء مقننة، وآليات عمل متكيفة مع طبيعة المنجز، وخطط وتشريعات عادلة، وثقافة عمل ورؤية ورسالة موجهة، وقيم وسلوك مؤسسي نابع من تشارك الجميع واقتناعه به والتزامه مبادئه، إذ لن يكون في قاموسها ما يعطل الكفاءة، أو يقلل من الثقة في الخبرة، أو يثني التجربة عن مسار الاستمرارية في إعادة تطبيقها مرات عديدة. على أن مسألة التعقيدات التي باتت تتعايش أوهامها المؤسسات؛ إنما هي نتاج لهذا التباعد في تحديد الاختصاصات، وتفعيل المهام، وضعف مستويات الرقابة والمتابعة، وانحسار ضمير المسؤولية، فأنتجت مفاهيم سالبة على مسيرة الأداء، كحالات العقم الإداري التنظيمي، والثقافة السلبية بالمؤسسات، وكثرة التذمر والشكوى، وضعف الانتماء للمؤسسات، وكثرة التغييرات غير المبررة، أو القرارات العشوائية غير المدروسة، وتداخل الاختصاصات والازدواجية في العمل، وتكّدس العمل في دوائر دون غيرها، أو أشخاص بعينهم، وبروز تحديات استهلكت من وقت المسؤول في كثرة الاجتماعات المطولة، أو اللجان المشكلة التي قامت بسلب اختصاصات دوائر أخرى بالتقسيمات المؤسسية، حتى ضجّت المحاكم بممارسات ضيّعت أولويات العمل وهويته.

إننا نقرأ اليوم عنوان مقالنا في ممارسات غير محسوبة، أولها: فمع الاتفاق بأن هذه القدرات تمتلك في أكثر أحوالها الكفاءات والخبرات والابتكارات والدوافع والرغبة في العطاء والتوسع في أفق المعرفة، وقوة منهجيات للتطوير، والبحث عن مداخل متعددة للإنجاز، وتعزيز مسارات التجديد في العمل وحب التغيير، وغيرها، إلا أن عملها يصطدم بواقع جديد، يبرز في تحجيم فكرة الاستفادة منه أو التعاطي معه أو محاولة قراءة الأفكار العملية المطروحة، فتبقى حبيسه الأدراج ، غير قابلة للنقاش، فتظل القدرات أمام مشهد متكرر غير قادر على الاجابة عن التساؤل الذي تطرحه كل وقت … ماذا بعد؟؛ أما ثانيها: فيرتبط بامتلاك أغلب هذه القدرات لحس الأداء، وقوة الفكر، ونبض الوطن، ومنهج العطاء وحب الانجاز، جرّبت مواقع العمل فنجحت، وأسّست لها منهجيات راقية حمدها عليها المخلصون، وأصّلت للأداء مسارات مهنية، مفتاحها الصبر والتحمل والاستمرار في الانجاز ، فلها في معين العطاء بصمات مشهودة، وفي حكمة القرار أقلام عادلة وأحكام فاصلة، وفي مواقع العمل والمسؤولية نجاحات وبراهين وشواهد مبهرة ، ومع ذلك فقد أصبحت قدرات معطلة، عندما ضاقت رؤية التقنين وعطلت فيها قيمة الاختصاص والتخصص، فلم يسند لها من الأمر شيء، لتظل تبحث عن إجابة لسؤالها.. لماذا؟ وأما ثالثها: فما أوجده سيل بيوت الخبرة الخارجية المتوافدة على المؤسسات، من تعطيل للقدرات الوطنية، وضآلة التوظيف الأمثل لها في الدراسات التقييمية والتشخيصية والتطويرية، لتظل تبحث عن موقع لها من الاعراب.. وأين نحن؟ .
هكذا جاءت إلى السطح ظاهرة القدرات المعطلة، وهي تنتظر إشارة البدء لها بالعطاء، عطاء لا ينفد، وإنجاز لن ينتهي بريقه، كان له في الواقع بصمات مؤثرة ، وعناوين بارزه لكل مخلص غيور على وطنه، وهم أبناء وطني الذين عمروا الأرض فأحسنوا فيها، ضمنوا لأنفسهم القدرة، فكانوا الثقة في الانجاز، والصبر في التحمل، وقدوات عانقت سماء البر وصفو الخُلُق، فنحن اليوم بحاجة إلى قراءة متجددة لواقع العمل بمؤسساتنا، تضع الجميع، أمام مشهد الوطن الواحد يتحملها كل من أخلص لعمان وقائدها مولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه، وهم لعمري، جميع أبناء وطني الأوفياء، قراءة تصنع التغيير في أداء المؤسسات، وتبني للعطاء أروقة النجاح، لن تكون القدرات معطلة، عندما تنتهج ثقافة العمل روح الاخلاص، وتبني في سلوك المسؤولين مسارات القدوة، وتعيش المؤسسات روح التكامل والوحدة، فيشد بعضهم بعضا، ويكمل احدهم ما تركه الآخر، لتكن الثقة معيار نشدّ به يد العطاء، ونبني في ظله مساحات التمّيز، وننثر في طريقه ورود الحب لعمان الغالية، لنقنّن الممارسة، ونحدّد الأولويات، ونرسم خارطة طريق، ننجز ونشّمر عن ساعد الإنجاز، فتتكون في بيئة العمل فئات كالنحل، تعطي ولا تمنع، تُنتج ولا تتوقف، تُخلص ولا تتذمر، تُناضل ولا تيأس، فيعملون بروح رضية، ويعيشون استراحة محارب، محفوفه بالرضا إنجازاتهم، مزدانة بالجودة أفعالهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى