المتقاعدون: خبرة تُكرَّم وطاقة تُستثمر

بقلم: علي المجيني
تربوي و خبير تخطيط
يستيقظ المتقاعد مبكرًا، كما اعتاد طوال سنوات عمله،لكن يومه الآن مختلف؛ لا ينتظره بريد عاجل ولا اجتماع طارئ، وﻻ تقرير الى مديره ، بل ينتظره فنجان قهوة، وفسحة وقت يختار هو كيف يملؤها ، و يطل بفكره على مجتمع يعرف أنه كان يومًا من صُنّاعه، ويبتسم لأنه يرى ثمار جهده في أجيال وطنه تسير إلى الأمام.
المتقاعد ليس شخصًا انتهى دوره، بل هو إنسان يبدأ مرحلة جديدة أكثر حرية وثراء. يحمل في ذاكرته أرشيفًا من التجارب، وفي قلبه رغبة في أن يشاركها مع الآخرين. هو مستشار، اكاديمي، او طبيب ، يعيش حياته بصفاء ويمنح من حوله خبرةً وحكمةً لا تُقدّر بثمن ، أن ندرك أن للمتقاعد حقًا أصيلًا في أن يعيش حياته كما يشاء. فالتقاعد ليس انسحابًا من الحياة، بل هو ربيع العمر الثاني، حيث تُقطف ثمار السنين، ويُمارس الإنسان شغفه بعيدًا عن ضغوط الوظيفة. إنها مرحلة يختار فيها الإنسان إيقاعه الخاص، بين أسرته وأحفاده، بين هواياته وأسفاره، بين القراءة والكتابة، وبين اعماله في خدمة المجتمع بروح المتطوع لا الموظف.
رغم اختلاف التقديرات بين المصادر، فإن قراءة إعلامية نُشرت تشير إلى أن عدد المتقاعدين في سلطنة عُمان بلغ حوالي ( 131) ألف متقاعد، منهم ( 107 ) آلاف ذكرا و ( 24 ) ألف أنثى، وفقًا لأسباب متعددة أبرزها بلوغ سن التقاعد والاستقالة والوفاة.
ورغم أن هذا الرقم غير صادر عن جهة إحصائية رسمية، إلا أنه يُعطي تصورًا أكثر شمولًا لحجم الشريحة التي أنهت مسيرتها المهنية، مقارنةً بتقديرات أخرى تشير إلى نحو ( 80 ) ألف متقاعد يتقاضون معاشًا حاليًا ، ويُتوقع أن يرتفع هذا الرقم بشكل ملحوظ خلال السنوات القادمة.
في الدول المتقدمة، لا يُنظر إلى التقاعد كنهاية للمسار المهني، بل كبداية لدور جديد أكثر مرونة وعمقًا ، يُوكل الى المتقاعدين في أعمال استشارية، تعليمية، وتطوعية، مستفيدين من خبراتهم المتراكمة دون تحميلهم أعباء إدارية مرهقة.
فالمهندس المتقاعد يصبح مستشارًا في مشاريع البنية التحتية، والمعلم المتقاعد يتحول إلى موجّه مستشار في الاعمال التربوية ، والطبيب المتقاعد يُستدعى لتدريب الكوادر أو تقييم السياسات الصحية. هذه النماذج لا تُكرّم المتقاعد فقط، بل تُفعّل طاقته وتُعيد استثمارها في خدمة المجتمع، ضمن بيئة تحترم خبرته وتُقدّر وقته.
وهناك امتيازات وخدمات تقدم للمتقاعدين في دول العالم مثل زيادة المعاش التقاعدي و خصم نسب عالية من فواتير الكهرباء والخدمات و تخفيض تذاكر السفر ، و دول اخرى تعمل على توفير الرفاهية بنخفيض تذاكر السينما والمواسم الرياضية والمواقع السياحية و وسائل النقل .
وفي وطننا العزيز وعلى ضوء ارتفاع أسعار السلع والخدمات، أصبح الراتب التقاعدي في كثير من الحالات لا يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية للمتقاعد وأسرته ، لذلك، من المهم أن يُعاد النظر في آلية صرف المعاشات التقاعدية، بحيث تشمل: زيادة سنوية مرتبطة بمؤشر التضخم وغلا المعيشة ، ودعم إضافي للمتقاعدين ذوي الدخل المحدود ، وإعادة تقييم الحد الأدنى للراتب التقاعدي بما يتوافق مع خط الكفاية المعيشية ، وتوفير امتيازات تُشعر المتقاعد أنه مُكرَّم ومُحتفى به.
فالمجتمع الذي يقدّر متقاعديه هو مجتمع يحترم تاريخه ويصون مستقبله.
فلماذا لا نُعيد تعريف التقاعد؟ ولماذا لا نقول: المتقاعد هو من انتهى من الوظيفة… لكنه بدأ حياةً جديدة، يهنأ بها ويُكرَّم فيها، ويظل حاضرًا في بناء الوطن.




