المقالات

المحتوى الهابط : كلما هبط اكثر، ارتفع عدد المتابعين !

بقلم : علي المجيني
تربوي و خبير تخطيط

بدأت صباحي بعد تناول الفطور بفتح أكثر الفيديوهات انتشارًا لهذا اليوم، اختصارا للوقت ومعرفة ما يشاهده الناس ، وأنا واحد منهم، لا أنكر ذلك ، فإذا بي أمام فيديو فكاهي، كما أستطيع أن أسميه: شخص يُعد وجبة عشاء عبارة عن (معكرونة كاذبة) ، ثم يسكبها على رأسه، وهي شبه باردة كما هو متوقع ، عدد المتابعين يرتفع بالثواني، والتعليقات تنهال عليه كأننا أمام إنجاز وطني ، ثم انتقلت إلى فيديو آخر، أكثر صعوبة في البحث عنه : دكتور في الاقتصاد يتحدث عن الأزمة الاقتصادية العالمية، بلغة واضحة، وأرقام دقيقة ، لكن عدد المتابعين لا يتحرك، وكأن الرجل يتحدث إلى كوكب آخر، أو بلغة لا تُفهم إلا في المريخ.

في زمن المنصات المفتوحة، لم تعد الجودة هي المعيار، بل الضجة ، فالمحتوى الهابط لا يحتاج إلى تفكير، ولا إلى إعداد، ولا إلى احترام عقل المتلقي ، يكفي أن يكون غريبًا، او صادمًا، أو مضحكًا بطريقة مبتذلة، ليحصد آلاف المشاهدات ، أما المحتوى الهادف، فيُطلب منه أن يكون مختصرًاجذابًا، غير ممل، وأن يُقدَّم في قالب ترفيهي، وإلا فمصيره النسيان.

يبدو أن المعادلة الجديدة تقول: كلما هبط المحتوى أكثر، ارتفع عدد المتابعين أكثر !هل المشكلة في صانع المحتوى؟ أم في المتلقي؟

وهنا المفارقة : صانع المحتوى الهابط لا يعتذر، بل يحتفل بعدد المشاهدات ، وصانع المحتوى الهادف يُراجع نفسه، ويقلق من ضعف التفاعل ، لكن الحقيقة أن المتلقي نفسه تغيّر ، ففي عصر السرعة، لم يعد الناس يبحثون عن المعرفة، بل عن التسلية ، ولم يعد السؤال : ماذا سأتعلم؟ بل أصبح: كم سأضحك؟
وهنا لا بد من الاعتراف: ان المحتوى الهابط ليس عشوائيًا، بل هو صناعة مدروسة تعرف كيف تثير الفضول، وتستغل تقنية الخوارزميات في وسائل التواصل ، وتُرضي المزاج العام .
إن وجد محتوى هادفا ينجح، لكن بصعوبة ، يحتاج إلى صبر، إلى جمهور واعٍ، وإلى منصات تُعطيه فرصة للظهور.ويحتاج قبل ذلك إلى إرادة مجتمعية تقول: نحن نريد أن نضحك، و لكن لا نريد أن نُفرّغ عقولنا.

تشير الإحصاءات إلى أن المحتوى الهابط يحصد تفاعلًا أعلى بنسبة تصل إلى 60% مقارنة بالمحتوى الهادف، خاصة على منصات مثلTikTok وInstagram. فالفيديوهات الساخرة أو الغريبة تنتشر خلال ساعات قليلة، وتصل إلى الترند دون الحاجة إلى دعم إعلامي أو تسويقي ، أما المحتوى الهادف، فيواجه صعوبة في الوصول إلى الجمهور العام، ويحتاج إلى تصميم جذاب واستراتيجيات تسويقية ليحظى بالاهتمام ، ورغم أن المحتوى الهادف يجذب جمهورًا نوعيًا يبحث عن الفائدة، إلا أن هذا الجمهور يظل محدودًا مقارنة بجمهور المحتوى الترفيهي السريع.

ومن الامثلة للمحتوى الهابط الذي يسوق على اساس الترفيه السريع والانتشار الاوسع وهو عبارة عن التحديات الغريبة مثل سكب الطعام والرقص العشوائي و المقالب ومحتوى ساخرا بلا مضمون ، اما عن الفيديوهات عبارة عن ردات فعل مبالغ فيها و فيديوهات يوميات سطحية او مفتعلة ،وقد يحصد هذا المحتوى من 1 الى 10 ملايين متابع وان الفيديو الواحد قد يصل الى 5 – 20 مليون مشاهد خلال ايام خاصة اذا دخل الترند .

ومن الامثلة للمحتوى الهادف الشائعة عبارة عن محاضرات علمية او اقتصادية و محتوى تعليمي او توعوي واما تحليلا اجتماعيا او سياسيا او محتوى دينيا او ثقافيا عميقا ، ومن المنصات الاهم للمحتوى الطويل والشرح المفصلYouTube: وللمحتوى المهني والتحليلي منصةLinkedIn: وللنقاشات الفكرية والمقالات المختصرة منصةTwitter (X): والحسابات الهادفة غالبًا ما تحصد من 50 ألف إلى 500 ألف متابع في المتوسط إلا إذا دعمتها جهة رسمية أو مؤثر معروف .

في زمن المنصات، قد يُكافأ من يسكب المعكرونة على رأسه، ويُتجاهل من يُسكب عليه علمه، لكن هذا لا يعني أن نُغيّر اتجاهنا، بل أن نُغيّر أدواتنا، ونُعيد تعريف ما يستحق أن يُشاهد ، فالمحتوى الهابط قد يرتفع في الأرقام، لكنه لا يرفع من الوعي ، والمحتوى الهادف قد يتأخر في الوصول، لكنه يصل إلى من يبحث عن المعنى.

في فضاء المنصات المفتوحة، لم يعد السؤال: من يُنتج المحتوى؟ بل أصبح: من يُكافئه؟ المتلقي اليوم ليس مجرد مشاهد، بل هو محرّك الخوارزميات ، وصانع الترند، وموزّع الجوائز الرقمية فكل نقرة، تعليق، أو مشاركة، هي تصويت ضمني على ما يستحق أن يُشاهد.

وللحد من انتشار المحتوى الهابط، لا يكفي أن ننتقده، بل يجب أن نتوقف عن التفاعل معه ، فالصمت الرقمي أحيانًا أبلغ من النقد، والتجاهل أذكى من الجدال ، أما المحتوى الهادف، فلا يحتاج إلى أن يكون مملًا أو ثقيلًا، بل إلى أن يُقدَّم بأسلوب ذكي: قصير، بصري، جذاب، دون أن يفقد عمقه أو احترامه لعقل المتلقي.

ولكي نغيّر القاعدة التي تقول: كلما هبط المحتوى، ارتفع عدد المتابعين ، نحتاج إلى قاعدة جديدة تقول:كلما ارتقى المحتوى، ارتقى المتابعون معه.

وهنا يأتي دور الاستراتيجية: بأن يُنتج المحتوى الهادف بأسلوب ترفيهي دون أن يُفرّغ من مضمونه ، و أن يُدعم من مؤثرين ومؤسسات تؤمن بالمعنى، لا بالضجيج ، كذلك أن يُروَّج له بأساليب تسويقية تُخاطب الخوارزميات كما تُخاطب العقول ، و أن يُمنح فرصة للظهور في المنصات، لا أن يُدفن تحت سيل المقالب والرقص العشوائي .

فعلى المتلقي أن يسأل نفسه قبل أن يضغط ( إعجاب ) :
هل هذا المحتوى يسليني فقط ؟ أم يسليني ويجعلني افكر واستفيد منه و بأمكانني ان اعيده عدة مرات ؟

في زمنٍ تتزاحم فيه القضايا الوطنية من الباحثين عن عمل من الشباب إلى جودة التعليم، والعديد من القضايا التي تهم المجتمع ، يطل المحتوى الهابط كأداة ترويض ناعمة، تُقدَّم على هيئة ( ترفيه ) ، لكنها تُمارس وظيفة خفية: تشتيت الانتباه عن الأسئلة الحقيقية التي تهم المواطن، وتسويق الرداءة بشكل عام ، فبدلًا من أن ينشغل الرأي العام بمصير الخريجين أو أداء المؤسسات و القضايا التي تهم المواطن ، يجد نفسه مأخوذًا بمقاطع استعراضية، أو حوارات فارغة على منصات التواصل، وكأننا نُدرَّب تدريجيًا على تجاهل ما يهم، والانشغال بما لا يُفيد.

المحتوى الهابط لا يُنتج فقط من فراغ، بل يُستهلك بشغف، ويُعاد تدويره حتى يصبح للاسف جزءًا من الثقافة اليومية ، إنه لا يكتفي بإلهاء العقول، بل يُعيد تشكيل الذوق العام، ويُقنعنا أن ( الخفيف ) هو الأفضل، وأن ( السطحي ) هو الأكثر انتشارًا، وأن ( الرديء ) هو الأكثر ربحًا.

فهل نحن أمام ظاهرة إعلامية عابرة؟ أم أمام مشروع ترويض ناعم، يُعيد تشكيل المجتمع ليكون أكثر قابلية للتجاهل، وأقل قابلية للتفكير؟

ربما آن الأوان أن نعيد النظر، لا في المحتوى فقط، بل في أنفسنا كمستهلكين له… قبل أن نصبح مجرد جمهور في مسرح الرداءة ، ومروجين له بالنشر له دون تقييم .
فهل نعيد حساباتنا بأن نكون اﻻكثر مستهلكين للمحتوى الهادف و بأن نكون اﻻكثر محاربة للمحتوى الهابط ، و تكون وسائل التواصل اﻻجتماعي التي نستخدمها اﻻكثر نفعا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى