المقالات

المبني للمجهول في خطر

بقلم: كمال الفهدي

لست أعرف من ارتكب الجريمة أول مرة، ولكني أعرف أداة الجريمة، وهي مازالت تُستعمل في ذبح (المبني للمجهول) إنها كلمة (تمَّ) وحين يؤنثونها فهي (تمّت).

حاولت تتبع متى ظهرت كلمة (تمّ، تمّت) في الكتابات العربية، ووصلت إلى خمسينات القرن الماضي القرن العشرين، وربما قد تكون وُلِدَتْ قبل ذلك الوقت، إلا أنني لم أتيقن من ذلك، فمنذ ذلك الوقت ظهرت بكثرة في الصحف والمجلات ولاحقا في الكتب، ولم يعد لدي أدنى شك في أن مرتكب الجريمة الأولى كان صحفياً لم يكلّف نفسه عناء تعلّم قواعد اللغة العربية، ولم يكن غيوراً عليها.

ستسمع وتقرأ كثيراً قولهم:
تمّت مناقشة طلبكم كذا وكذا.
تمّ افتتاح المشروع الفلاني في اليوم الفلاني.
تمّ وضع حجر الأساس للمشروع الفلاني.
تمّ تبادل إطلاق النار في كذا وكذا.
إلى غيرها من العبارات المزعجة التي لو تمعنت فيها لرأيت أن كلمة (تمّ، تمّت) قد سرقت مكان المبني للمجهول، ولو أعدنا صياغة تلك الجمل مرة أخرى لكانت هكذا:
نوقِشَ طلبكم كذا وكذا.
افتُتِحَ المشروع الفلاني.
وُضِعَ حجر الأساس للمشروع الفلاني.
تُبُودِلَ إطلاق النار في كذا وكذا.
هذه الصيغ للمبني للمجهول تكاد تختفي من الوجود عندما حلّت محلها (تمّ، وتمّت) وهو باب كبير من أبواب الصرف العربي ينبغي أن لا نسمح بحذفه من لغتنا العظيمة، ولقد أضر الإعلام العربي كثيراً باللغة العربية من حيث يظن أنه أحسن إليها، فقد صارت اللغة العربية تفقد في كل يوم ركناً من أركانها، ونحن اليوم نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لغتنا الجميلة.

إذا تعذّر البعض بصعوبة صياغة المبني للمجهول من بعض الألفاظ، فنقول له: إن اللغة العربية كغيرها من اللغات تنمو بالاستعمال وتموت بالإهمال، فكلما تعودنا على نطق المبني للمجهول نما وصار عادياً وسهلاً، وكلما أهملناه صار غريباً ثقيلاً صعباً على ألسنتنا.

ولنا في كتاب الله العزيز أمثلة كثيرة لم يأتِ الله فيها بـ(تمّ، تمّت) بل جاء بالمبني للمجهول، وسأورد أمثلة على ذلك:
(وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَن یُقۡتَلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰ⁠تُۢۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءࣱ وَلَـٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ) [سورة البقرة 154]، فلم يقل: تمّ قتله في سبيل الله.
(۞ وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَیۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانࣰا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ یُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡـَٔاخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا یَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِینَ) [سورة المائدة 27]، فلم يقل: تمّ قبول قربانه، ولم يتمّ قبول قربان الآخر.
(وَحُمِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَٱلۡجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ) [سورة الحاقة 14]، فلم يقل: تمّ حمل الأرض والجبال، وتمّ دكهما.
إلى غيرها من الآيات الكثيرة التي جاء الله فيها بالمبني للمجهول، ولم يجد غضاضة في ذلك، ولم تؤدِّ إلى أي ثقل على القرّاء الذين يقرأون القرآن آناء الليل وأطراف النهار، فلا ندري مالذي حصل فجأة فتحول الناس من استعمال المبني للمجهول إلى (تمّ، تمّت).

وإذا أراد أحدهم إقناعك بأن الأمر لا يستأهل كل هذه الضجة، فالمعنى مفهوم ولا يُخل باللغة، فقل له: إن المعنى الذي تؤديه (تمّ، تمّت) بعيد جداً جداً عن أن يكون صحيحاً في كل مرة يستعمل فيها، فمعروف لدى كل عربي ومن يعرف العربية أنهم إذا أرادوا أن يشعروا الآخرين بانتهاء أمر ما وفراغه يقولون (تمّ، تمّت)، ويمكن أن تتأكد من ذلك بفتح آخر صفحة من أغلب الكتب القديمة ونهاية قصائد الشعراء القدامى لتجد قولهم:
(تمّ بحمد الله) و(تمّت أبيات القصيدة)، وليس ذلك وحسب، بل إن القرآن الكريم يزخر بهذا المعنى وهنا سنأتي بأمثلة منه:
(… وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ…) [سورة البقرة 187]، أي أكملوا الصيام إلى الليل.
(وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ…) [سورة البقرة 196]
(وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقࣰا وَعَدۡلࣰاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ) [سورة الأنعام 115]
إلى غيرها من الآيات التي تحمل معنى الاكتمال والتمام والانتهاء، فهذا هو المعنى الذي وضعه العرب لـ(تمّ، تمّت) ولا يمكن بحال من الأحوال أن يحلّ هذا المعنى محل كل المواضع التي ينبغي وضع المبني للمجهول فيها.

فينبغي لنا تجنّب كتابة (تمّ، تمّت) في مراسلاتنا العادية أو الرسمية أو في مقالاتنا أو في صحفنا ومجلاتنا أو في كتبنا، فهي إما أن تكون حشواً لا فائدة منه في الجُمل والعبارات أو خطأً لغوياً يحطّ من قدر مرتكبه، ولنعد الحياة للمبني للمجهول ذلك الركن المهم من أركان لغتنا الجميلة، الذي يمتاز بموسيقاه وإيقاعاته الرائعة عند النطق به في ثنايا أحاديثنا، فلا يوجد صنف من أصناف الألفاظ يتحلّى بهذه الموسيقى العذبة التي تجمع (الضم فالكسر فالفتح) بهذا الترتيب الدائم في الفعل الماضي، و (الضم فالسكون فالفتح فالضم) بهذا الترتيب الدائم في الفعل المضارع.

ورجاء كبير بأن يحرص الإعلاميون على إصلاح ما أفسدوه من المبني للمجهول، وما اقترفوه في حق اللغة العربية التي كانت سبباً في رزقهم، وعليهم أن يصالحوها ويطيّبوا خاطرها بالعودة إلى استعمال المبني للمجهول مكان (تمّ، تمّت).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى