ياريت اليوم أشبه بالبارحة!

بقلم : علي بن سالم المجيني
تربوي وخبير تخطيط
يبدو أن اليوم لا يختلف كثيرًا عن البارحة، حينما وقعت عيناي على إعلانات التوظيف المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي. أغلب هذه الإعلانات تطلب مؤهلات جامعية مثل مهندس، معلم، مترجم، وغيرها من التخصصات التي كنت أظن أنها مطلوبة بقوة في سوق العمل العُماني، ذلك السوق الذي طالما وصفته بأنه جديد، متطور، وبكر؛ كطفلٍ يحبو على ركبتيه بلغة النقاء الفسيولوجي.
فالسؤال هو: لماذا لا يستوعب هذا السوق المجموعة الشابة التي أنهت مرحلة مهمة من التعليم الجامعي، وصارت قادرة على العطاء والإسهام في تطوير البلاد؟
وقد أكون منصفًا إلى أبعد الحدود إذا وصفت وضع سوق العمل الآن، رغم كل المعوقات، بأنه يُشبه سوق العمل في بدايات النهضة المباركة التي قاد زمامها باني عُمان الحديثة – عليه رحمة الله ورضوانه – فقد كانت مرحلة البناء والتطوير، والوصول إلى مراتب الدول النامية أو في طور النماء. آنذاك، استوعب سوق العمل العُماني كل الطاقات، سواء من حازوا على درجات بسيطة من العلم، أو من تخطوا مرحلة الأمية في القراءة والكتابة، فكانوا قادرين على تقديم حتى القدر اليسير من التعليم.
لكننا اليوم لا نعرف ما هي معوقات العمل! لماذا أصبح العمل عملة نادرة أو شبه معدومة؟ ولماذا انحصر طلبا في القطاع الحكومي، وأصبح غير متوفر طلبه في القطاع الخاص؟
وقبل أن نتحدث عن أزمة العمل، لا بد أن نتحدث عن أزمة الفكر. فذلك الذي يُفاضل بين الأعمال ويرفض العروض الشحيحة التي تأتيه من القطاع الخاص، ويستمر إلى الانتظار شهورًا وسنواتٍ عجاف حتى يجد فرصة عمل في الحكومة – هذا إن توفرت – انه يعاني من أزمة فكرية حقيقية. إنها أزمة يمر بها المواطن أو الباحث عن العمل، رغم سعي الحكومة الحثيث لتقريب الفوارق بين القطاع الحكومي المترف، والقطاع الخاص المنهك (كما يُقارن بينهما من نظرة الباحث عن عمل ).
وإذا دخلنا في أعماق هذه الأزمة، وكيف تولدت وترسخت في عقول الشباب، نجد أن الإجابة متعددة الأبعاد:بُعدا متعلقا بربّ العمل، ومن يقود المؤسسة، ومن بيديه مسؤوليات الشركة ، وبُعدا اقتصاديا واضحا ، يظهر في قلة الرواتب والحوافز ، وبُعدا زمنيا، ناتجا عن طول ساعات العمل، واحتياج الشركات لزيادة الإنتاجية.
وظهرت أيضًا مشكلة ذات تأثير فكري وتعليمي؛ فالباحث المتعلم، الذي جلس على مقاعد الدراسة سنوات طويلة، ويحمل شهادات عليا – سواء كانت فنية تخصصية أو مهنية متوسطة – قد يلجأ إلى العمل في غير تخصصه. فالمهندس يعمل سائق أجرة، والمعلم في الإرشاد السياحي، والمحامي في بيع الأقمشة والمنسوجات، وغيرها من الأمثلة.
ولا نقول إن العمل عيب، بل على العكس، فالكسب الحسن وجه من وجوه الرزق وسدّ الحاجة. لكن مع مرور الوقت، نجد أن هذا المتعلم قد فقد ما تعلمه، وتعب وسهر عليه، وأصبح ذهنه وفكره منغلقًا.
وإذا تحرّينا عن الإحصاءات الرقمية حول ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل سنويًا، نجد رقمًا غير مرغوب به في بلد فتي ومتقدم. فعدد المتقدمين للدبلوم العام يتجاوز 50 ألف طالب، ومجمل الناجحين يتجاوز 40 ألفًا. أما الذين يلتحقون بمؤسسات التعليم العالي عبر البعثات الحكومية، فيبلغ عددهم نحو 25 ألف طالبا، وقد يلتحق نحو 5 آلاف طالب على الحساب الخاص، ليصبح المجموع نحو 30 ألف طالب سنويًا. هؤلاء ينهون دراستهم خلال سنوات مختلفة، وعلى ضوء ذلك يزداد عدد الباحثين عن عمل سنويًا، حتى وصل – وفقًا لإحصاءات المركز الوطني للإحصاء – إلى 100 ألف باحث في عام 2024، في ظل عدم توفر فرص عمل كافية سنويا .
إن ما تقوم به الدولة من خلال مؤسساتها المعنية في توفير فرص العمل، خاصة في المجال العسكري، يستوعب بعضًا من حملة شهادة التعليم العام، ومجموعة بسيطة من حملة الشهادات الجامعية والمهنية. وكذلك في المجالين الصحي والتعليمي، لكونهما قطاعين يشهدان توسعًا وانتشارًا في أرجاء عُماننا الغالية.
ولا شك لدينا أن هذه الأعداد الثقيلة من الباحثين عن عمل ستضمحل وتختفي، على ضوء إصدار القوانين والتشريعات الصريحة والجادة، ومتابعتها لدى الجهات المسؤولة . وبذلك، يصبح سوق العمل أكثر انفتاحًا، وينشد مزيدًا من الأعمال، ويفتح آفاقًا عديدة لاستيعاب الباحثين، ويصبح اليوم بحق أشبه بالبارحة.




