المقالات

التحريض كأحد أخطر صور الاشتراك الجرمي وفق قانون الجزاء

بقلم/ الأزهر بن بدر الحوقاني

محام وباحث علمي في الشؤون القانونية وباحث ماجستير بالقانون الجزائي لدى جامعة السلطان قابوس – كلية الحقوق.

إن الصورة الطبيعية للجريمة التي يغلب تصورها هو قيام الجاني بارتكاب جريمة ما بمفرده، وفي هذه الصورة للجريمة لا تثور بها أية إشكاليات عملية، إلا أنه وفي الضفة المقابلة لذلك، فإنه لا مناص من أن يتصور ارتكاب الجريمة الواحدة من قبل شخصين فأكثر، وهنا قد تثور إشكالية البحث عن تحقق المسؤولية الجزائية لكل فاعل أو مساهم أو شريك في الجريمة، كلاً بحسب صورها وضوابطها، ولعل الإشكالية العملية تبرز وبشكل أكثر دقة في المساهمة التبعية، إذ أنها لا تدخل في تكوين الركن المادي للجريمة، ولا في إطار فعلها التنفيذي، وإنما جل نطاقها يتجلى في قالب الأعمال التحضيرية، والتي – وبطبيعة الحال وبحسب الأصل – لا عاقب عليها، إلا أن جذور تلكم المساهمة التبعية تبرز في صدد اتصالها بالفعل الذي قام به الفاعل الأصلي للجريمة وبنتيجته برابطة السببية، ولعل أبرز صورها هو فعل التحريض، حيث أنه ولقيام مسؤولية المحرض فيها فلابد من وقوع الجريمة من قبل من وقع عليه فعل التحريض حتى نكون بصدد قيام مسؤولية المحرض؛ كون أن قالبها منصب في مرحلة الأعمال التحضيرية.

حيث يعد التحريض أحد أشد القضايا خطورة؛ وذلك لما ينطوي عليه من انعكاس أثره بصورة مباشرة على سلوك الأفراد والجماعات، إذ أن مناطه هو خلق شرارة الجريمة في نفس فرد أو جماعات، ومن ثم تدعيمها كي تتحول إلى تصميم على ارتكابها، وغالباً ما ينتهج التحريض ويستغل في سبيل زرع الفتنة أو إشاعة الفوضى أو التحريض على العنف والكراهية وأشكال التخريب.

وعلى ذلك فلقد أولت التشريعات ومن بينها المشرع العماني اهتمامها البالغ لدرء ما من شأنه أن يزعزع أمن واستقرار البلاد بكافة نواحيه، إذ أن نص المادة (38/ج) من قانون الجزاء الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7/2018 قد عرجت على ذلك بأن: (يعد شريكا في الجريمة: ج– من حرض على ارتكابها فوقعت بناء على هذا التحريض. وتتوافر مسؤولية الشريك سواء أكان اتصاله بالفاعل مباشرا أم غير مباشر).

وفي سبيل بيان ذلك فلقد عرجت المحكمة العليا في فحوى أحكامها على بيان ذلكم المفهوم بقولها: (التحريض يعني خلق فكرة الجريمة وخلق التصميم عليها في نفس الجاني بأي وسيلة كانت أي أن نشاط المحرض ذو طبيعة معنوية باعتباره ينتمي إلى دائرة الأفكار والنوايا لا دائرة الأفعال والنتائج)، أي أنها بعبارة أوضح دفع الجاني نحو ارتكاب الجريمة عن طريق التأثير على إرادته، إذ أنه لابد أن يكون فعل التحريض على قدر من القوة التي تحث الجاني وتدفعه لارتكاب الجريمة.

وعلى ذلك الأساس فإذا لم يحمل التحريض بفحواه ذلكم الدافع الذي يحث الجاني على ارتكاب الجريمة، وذلك كأن يكون فعل الشخص لا يتعدوا سوى التفضيل والاستحسان لفكرة ارتكاب الجريمة، فإن مثل ذلك لا يعدوا إلى أن يتم اعتباره من قبيل أفعال التحريض. كما أنه إذا ما أنطوى الفعل على زرع الكراهية والبغضاء والحقد فإنه لا يمكن اعتبارها كذلك من قبيل أفعال التحريض؛ إذ أنها بمعناها هذا لا تنصرف إلى دفع الجاني نحو ارتكاب جريمة معينة، إذ أنه ولكي نكون بصدد فعل التحريض فإنه يجب أن يكون الفعل يدلل على نحو واضح على دفع الجاني نحو ارتكاب الجريمة بصورة مباشرة.

كما أن المشرع لم يشترط لكي يقع فعل التحريض بأن يكون منصرفاً بصيغة أو وسيلة معينة، فمن المتصور قيامها بأية وسيلة طالما أنها أثرت في إرادة الفاعل وأفضت إلى ارتكابه للجريمة، وعلى ضوء ذلك فإنه من المتصور قيامها سواء بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة.

كما أن نطاق التحريض من حيث وقوعه قد يتخذ إحدى الصورتين، فإما أن يكون محدداً لفرد بعينه، وإما أن يكون غير محدد ليشمل بذلك الجمهور المتلقي لفعل التحريض على نحو شامل، وذلك كأن يستعمل المحرض إحدى وسائل التواصل الاجتماعي في سبيل إثارة حفيظة مجتمع ما، الأمر الذي قد يفضي إلى ارتكاب عدة جرائم من قبل عدة أشخاص جراء ذلك فعل.

وعلى ضوء أن صورة التحريض كأحد صور المساهمة التبعية تجد دورها في شمولها لكافة الجرائم المنصوص عليها بموجب قانون الجزاء والقوانين المكملة له، إلا أن المشرع وتلافياً لخطورة فعل التحريض بذاته فقد قنن في فحوى نصوصه على وضع التحريض في قالب جريمة مستقلة قائمة بذاتها، كمعاقبته كل من حرض بأي وسيلة على قلب نظام الحكم القائم في البلاد (م99)، وكذلك كل من حرض على إثارة النعرات أو الفتن الدينية أو المذهبية (م108)، أومن حرض شخصا على الانتحار أو ساعده على قتل نفسه، إذا أفضى ذلك إلى الوفاة (م304).

كما أن المشرع ودرءً لجسامة ما قد يخلفه التحريض من آثار لا تحمد عقباها فلقد أعتبرها كأحد الظروف المشددة، حيث يعاقب بالإعدام، أو السجن المطلق مدبر العصيان، والمحرض عليه (م106)، وكذلك في حالة كان الجاني محرضاً في ترك أو امتناع الموظفين العامين عن تأدية واجب من واجباتهم الوظيفية لتحقيق غرض غير مشروع (م197). علاوة على أنه من المتصور اجتماع التجريم المستقل والظرف المشدد للتحريض في ذات النص، حيث يعاقب كل من دعا أو حرض على التجمهر، وتضاعف العقوبة على كل من أدار حركة أو حرض أطفالا لم يكملوا (١٨) الثامنة عشرة من العمر (م123).

ومقتضى ما سلف بيانه، فإنه يتضح لنا بأن التحريض لا يمكن تصوره كوسيلة مجردة لتعبير الرأي، بل قد تتحول إلى أداة جرمية تهدد أمن واستقرار المجتمعات وسلامتها، إذ أنها تُشعل من خلالها نيران الفتن وتحفز نحو ارتكاب الجرائم، بل وتغير من طبيعة الشخص الذي وقع عليه فعل التحريض فتحوله من شخص لا يحمل أية أفكار إجرامية إلى أداة إجرامية ربطت أغلال إرادتها بواسطة المحرض، فهو ليس إلا مجرد وسيلة لارتكاب الجرائم تحت يده، ومن هنا كان لزاماً التصدي لكافة مظاهر هذا السلوك الجرمي، إلى جانب تعزيز الوعي بالأخطار المنبثقة من ورائه، حفاظاً على النفس والنسيج المجتمعي من أن يتزعزع بمثل هذه الأفعال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى