الضجيج الداخلي: كيف ننجو من فوضى النفس في زمن مزدحم؟

بقلم :حميد بن صالح بن سليمان المجيني
مشرف ارشاد نفسي
في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار، وتتشابك العلاقات، وتزدحم التوقعات، بات الإنسان يعيش ضجيجًا داخليًا لا يُرى، لكنه يُنهك القلب والعقل؛ ضجيج التفكير والقلق والمقارنات اليومية التي تفرضها وسائل التواصل.
في الماضي، كانت العلاقات محدودة وعميقة، أما اليوم فقد أصبحت متعددة ومتشابكة، تربط الإنسان بعشرات الأشخاص دون خصوصية أو عمق، وتُحمّله عبء التفاعل المستمر ومحاولة إرضاء الجميع.
هذا الضجيج لا يُضعف التركيز فحسب، بل يُشوّه الهوية، ويُسرّع ظهور القلق والاكتئاب، بل وحتى الأمراض الجسدية المزمنة.
وللنجاة من هذه الفوضى النفسية، لا بد من بناء مساحات داخلية آمنة، عبر التفريغ الانفعالي، وممارسة الرياضة، والابتعاد عن مصادر التوتر، وتفعيل لحظات الصمت الواعي والتأمل والارتباط الروحي.
فالهدوء النفسي ليس غيابًا عن الواقع، بل حضورٌ متزنٌ فيه. ومن أراد السلام، فليُنصت لصوته الداخلي، ويُعيد ترتيب فوضاه، ليصنع من ذاته ملاذًا لا تهزّه العواصف.
اليك بعض النصائح للنجاة من الضجيج الداخلي:
-مارس الصمت الواعي بتخصيص دقائق يومية للجلوس بصمت، دون هاتف أو مشتتات، فقط لتسمع نفسك وتتنفس بعمق.
-امشِ لتُفرغ فالمشي ليس رياضة فحسب، بل وسيلة لتفريغ الانفعالات، خاصة في الأماكن المفتوحة أو القريبة من الطبيعة.
-قلّل من التعرّض للأخبار السلبية اي لا تجعل هاتفك بوابة للقلق، انتقِ ما تقرأ، وامنح نفسك فترات راحة رقمية.
-تحدّث مع من تثق بهم اي لا تكتم مشاعرك، فالكلام الموزون يُخفف الحمل، ويُعيد ترتيب الأفكار.
-اكتب لتُرتّب نفسك جرّب كتابة يومياتك أو مشاعرك، فالقلم يُنقّي الداخل ويُضيء الزوايا المعتمة.
-ارتبط بالروح بالدعاء، التأمل، والامتنان اليومي، كلها مفاتيح لطمأنينة لا تُشترى.
-نظّم نومك وغذاءك لا يُمكن للنفس أن تهدأ في جسد مُنهك، فالتوازن يبدأ من العناية بالأساسيات.
تذكّر أن النفس لا تطلب الكثير، فقط قليل من الصدق، والهدوء، والاهتمام.
ففي خضمّ الضجيج، لا يُطلب منك أن تُسكت العالم، بل أن تُنصت لصوتك الداخلي، أن تُعيد ترتيب فوضاك، وتُقيم في ذاتك ملاذًا لا تهزّه العواصف.
ولعلّ أجمل ما يُختتم به هذا التأمل، كلمات الشاعر عبدالله البردوني، التي تُجسّد هذه الحقيقة بلغةٍ شفافة:
ماذا يريد المرء ما يشفيه
يحسو رُواءَ الدنيا ولا يرويه
ويسير في نور الحياة وقلبه
ينساب بين ضلاله والتيه
والمرء لا تشفيه إلا نفسه
حاشى الحياة بأنها تشفيه
هكذا، لا يكون الشفاء في كثرة ما نملك، بل في صدق ما نُدرك.
ولا يكون السلام في صمت العالم، بل في سكينة القلب.
فابحث عن نفسك، لا عن ملامحها في الآخرين، واصنع من لحظاتك البسيطة طمأنينةً تُضيء لك الطريق.




