المقالات

عُقدة الممارسة

د.رجب العويسي

لعل الجميع يتفق أننا لا تنقصنا الموارد والامكانيات في مؤسساتنا وواقع حياتنا اليومية، فنحن نعيش في وطن معطاء قدر الله له سلطانا عظيما، نذر حياته من أجل وطنه وسعادة إنسانه، بشّرنا بفجر جديد وعيش سعيد وحياة هانئة، وها نحن نعيشها اليوم ومنذ أول يوم بدأت به نهضة عمان الحديثة ، طريقا نستلهم فيه من نهج جلالته أعزه الله، ودعوته أبناء وطنه إلى مشاركتهم جميعا في مسؤولية التنمية، بما يعزز استراتيجياتها، ويبني مسارات التقدم والانجاز في كل جوانب عملها وقطاعاتها، داعيا المسؤولين الى التجرد من المصالح الشخصية أو الاساءة إلى الوطن بتصرفات تتنافى وضمير المسؤولية وقيم الولاء والانتماء، بالشكل الذي ينعكس سلبا على جودة منظومة الأداء، داعيا إلى امتلاك الأدوات الرصينة والثقافة العالية والمنهجية العلمية والابتكارية والجاهزية المؤسسية، في بناء أنظمة العمل واستراتيجيات الأداء والمرونة في القرارات، وتوفير بيئات مؤسسية ابتكارية واضحة المعالم، متكاملة البنيان، عميقة الأهداف، مؤطرة التوجهات، في اتساع رؤيتها وعدالة ممارساتها وعمق نظرتها ودقة تشخيصها وسمو تعاطيها مع فكر الإنسان وابتكاره، والثقة في قدراته ودعم استعداداته وترقية قناعاته، لتسير قافلة العطاء وفق منهج الصواب، وتبني في إنسان هذا الوطن جميعهم حس المواطنة والشعور بقيمة المنجز وتقديره واحترامه.
من هنا جاء التأكيد على أهمية إدارة الممارسات والبحث عن كل ما من شأنه ترقية جانب الوعي فيها، طارقة سبيل العدالة، متخذة منهج التكامل، سالكة مسلك البحث والتشخيص والرصد الدقيق لاحتياجات المواطن، بما يبعدها عن أي مسلك يتجافى وجادة الصواب، أو يضيّعها في متاهات البحث عن المبررات والأسباب ، فيضيع بذلك وقت الانجاز، وتُسيئ إلى منهج العمل الوطني الذي ينشد التميز ويتناغم من أجل المنافسة وقوة الحضور، لذلك كان البحث في الممارسة والحاجة إلى إعادة صياغتها وفق موازين الحق والعدل والصدق والموضوعية والتكامل والترابط، مرتكز كل نجاحاتنا القادمة وطريق بلوغنا الأهداف بكل مهنية، لتضع بدورها الممارسة أمام مقاربات جديدة تستشرف التوقعات وتنسجم مع الآمال والطموحات، فتقل بشأنها علامات الاستفهام، وتصبح مسألة الوقوف عندها، زيادة في الدقة وريادة في العمل، وتأكيد على إستدراك حدودها وفهم مقتضياتها وضبط مداخلها وتوجيه مسارها، وامعان النظر في أساليبها وأدواتها على المستوى الشخصي أو المؤسسي أو المجتمعي. فإن الممارسة عندما تضع الذاتية طريقها الذي يزين لها حسن الفعال، وتنطلق منها قوتها لكسب جنونها العظمة المزيفة، يستمر خروجها عن أهدافها، وتضيع في واقع مظلم، لتبحث لها عن موقع جديد غير الذي ارتضته الحياة الفاضلة وسنّته التشريعات وأكدت عليه اللوائح والأنظمة، ويصبح انتشارها مرحلة رجوع إلى الوراء ، تُسييء للعطاء، وتقلب صفحة الانجاز ، وتُحجم عظيم المتحقق منه، لتصبح عقدة الممارسة الشبح المظلم الذي لا نعرف إلى أين يذهب بنا، فقيست عليه الأمور، حتى أصبحت النجاحات وأفضل الممارسات كأنها لم تكن شيئا في ظل رواج الممارسة، ليظن المتتبع لها، أنها ما يريده الوطن أو ما ترتضيه سياسة المؤسسة، ويخيَل للممارس نفسه أنه بذلك يمارس حقه وصلاحياته وهو أبعد ما يكون عن نهج الصواب، فإن المتتبع لكل القضايا الادارية المؤسسية في المحاكم القضائية الشرعية، ومحكمة القضاء الإداري والادعاء العام والشرطة وغيرها من مؤسسات القانون والضبط الاجتماعي، يجد ضعف ضمير الممارسة، التحدي الأبرز في وجه كل الأهداف السامية والغايات العليا، المعززة لروح المسؤولية والجودة والانتاجية والمواطنة والتطوير والتنمية وغيرها.
إن الممارسة غير المسؤولة هي التحدي الذي يواجه منظومة الأداء، وما يتبعها من تأخر في الاجراءات وزيادة في التعقيدات وانتظار توقيع متخذ القرار أو انشغاله بمهام عامة أو خاصة أو عدم وجود الشخص المعنّي بالموضوع كونه في أجازه أو غيرها من الاعذار، التي تنبئ عن اشكالية في منظومة إدارة الممارسات ، فدولة المؤسسات والقانون والحكومة الالكترونية تقوم على أطر أقرب إلى المرونة والاستدامة والمعيارية والتنافسية في الأداء والانتاجية والالتزام وغيره، في ظل وضوح المسؤوليات، ودقة معيارية المهام، وأدوات القياس ونماذج العمل وأطر المتابعة والرصد، لذلك لا ينبغي ان تشكل تلك الممارسات مبررا لعدم تحقيق معايير السرعة والدقة والكفاءة، على أن هذه الأعذار والمبررات نحن من تسببنا فيها، وضيّعنا خلالها موقعنا والتزامنا واحترامنا لمسؤوليتنا، بل ظلمنا بها مؤسساتنا ووطننا، لقد انتجت هذه الممارسات سلوكيات جديدة انعكست سلبا على طريقة تعاطي المواطن المستفيد من الخدمة معها، وحالة التذمر والسخط واللامبالاة التي تسببنا في وجودها حتى استفحلت في نفوس المترددين في طلب الخدمات، وعدم قبول الرأي العام للمنجز نفسه ومستوى اقتناعه به ، وإدراكه لطبيعة الجهد الذي قام به والمسافات التي قطعها والأوقات التي أهدرها والجهد والتفكير الذهني والمشاعر النفسية والدموع التي سكبها من كثرة ما صادفه من حوائط الصد، وما تتناوله حوارات المغردين عبر شبكات التواصل الاجتماعي ونقاشاتهم خير دليل يبعث إلى البحث عن مخرج لإعادة صياغة الممارسات بشكل يقيها العثرة ويضعها في حرم المسؤولية.
وعود على بدء فإن حديث العالم اليوم عن المدن الذكية ودور الفضاءات المفتوحة في تحقيق السعادة للإنسان عبر تيسير أموره وتسهيل قضاء حوائجه، وتقليل جانب الهدر في وقته وجهده، ومنطلقه لتعزيز الولاء والمواطنة لديه، وهو ما يعني أن تتجه الممارسة نحو تشخيص جوانب القصور الحاصلة، وأن يبرز دور المؤسسات الوطنية المعنية بالتقييم والمتابعة والتشخيص والمراجعة للقوانين والتشريعات في رصد هذا الواقع وإعادة صياغة الممارسة القادمة عبر بناء ضمير المسؤولية وتأكيد المحاسبية وتقدير الكفاءة ومكافأة الانجاز وتأكيد مبدأ التنافسية في حسن الاهتمام بأداء واجبات الوظيفة ومهامها، ويبرز دور المواطن متلقي الخدمة في تقييم أداء الموظف أو جهة التنفيذ عبر أنظمة تقييم تراعي مستوى الدقة والكفاءة واحترام متلقي الخدمة وحسن توجيهه واسلوب التعامل والابتكارية في الادوات والانضباط والبشاشة وفهم القوانين وسرعة انجاز المعاملات وغيرها، وبالتالي تكثيف مستويات الرقابة في كل القضايا اليومية التي تهم المواطن، وايجاد البرامج التشخيصية المساندة في الابلاغ عن أي قصور يتسبب فيه موظف أو مؤسسة ( التشريعات، والقوانين والأنظمة الإدارية ، الالتزام والانضباط وغيرها) وأن تعزّز ذلك بوجود مراكز اتصال مؤسسية فاعلة على مدار اليوم تحفظ حقوق الافراد، وتجيب عن تساؤلاتهم بكل مهنية ووضوح، قادرة على توفير الحلول والبدائل، وتمتلك القرار والعلاج لأكثر الاشكاليات في وقتها، بما يعزز روح المودة والأخوة والوحدة بين أبناء وطننا، ويشعر الجميع بأنه يحمل رسالة الوطن الأخلاقية والإنسانية في ذاته وممارساته ووظيفته ومهنته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى