المقالات

من داخل مجلس الشورى: التجربة، الواقع، وفرص التطوير والإصلاح

بقلم:  سعادة حسان بن أحمد النبهاني

عضو مجلس الشورى ممثل ولاية الجبل الأخضر

مع كل خطة خمسية جديدة، وميزانية جديدة، وكل قرار يؤثر على المواطن، تتجه الأنظار نحو مجلس الشورى، بحثا عن موقف أو دور واضح. فإلى أي حد يمكن للمجلس أن يؤثر فعليا في مراجعة تلك القرارات أو تطويرها؟
الأدوار المؤسسية في صناعة القرار
وللإجابة على هذا التساؤل، لا بد أولا من فهم طبيعة الدور المؤسسي لمجلس الشورى وآلية تأثيره في صناعة القرار، بوصفه حلقة وصل بين المواطن والجهاز التنفيذي. النفوذ السياسي للمجالس التشريعية يمارس من خلال التوافقات والتحالفات، وتُدار الخلافات ضمن أطر مؤسسية منظمة تتطلب التفاوض، والإقناع، وبناء الكتل، والعمل الجماعي المتراكم.
هذه البنية المؤسسية نشأت نتيجة تفاوض طويل الأمد بين مكونات المجتمع، واستجابت لتغيرات تاريخية وسياسية عميقة. ولهذا يشير أستاذ الاقتصاد العام ريتشارد كونجلتون في كتابه تجويد البرلمان إلى أن الإصلاحات التشريعية الحديثة في أوروبا جاءت كثمرة لمفاوضات معقّدة وطويلة بين الدولة والمجتمع.
ففي بريطانيا على سبيل المثال، بدأ تطور البرلمان مع الماجنا كارتا عام 1215، التي أرست مبدأ خضوع الجميع للقانون، وتواصل هذا التطور حتى إعلان الحقوق عام 1689، الذي منح البرلمان سلطة التشريع وفرض الضرائب. تلا ذلك بقرون قانون الإصلاح الانتخابي عام 1832، الذي وسّع قاعدة التمثيل الشعبي، وقانون البرلمان عام 1911، الذي قلّص سلطات مجلس اللوردات لصالح مجلس العموم المنتخب، واستمر التطور مع إدخال الاقتراع العام وتمكين النساء من التصويت عام 1918. هذه المسيرة، التي امتدت لأكثر من سبعة قرون، تُظهر أن بناء المؤسسات السياسية يتطلب صبرًا استراتيجيًا وتكيفًا مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية.
الكلمة التأسيسية: القرب من المواطن
وعلى الرغم من هذا التدرج، فلا تخلو النماذج الديمقراطية الغربية من علل بنيوية، مثل الشعبوية، والتحزّب، والمغالاة، وهيمنة المال السياسي. ولهذا لم يكن النهج العُماني يوما مع الاستيراد المباشر لأي نموذج سياسي، بل انطلق من مرجعيته الإسلامية كما في قوله تعالى: “وشاورهم في الأمر”، و”وأمرهم شورى بينهم” وعكس تطور مجلس الشورى منذ إنشائه عام 1991 نهجا تدريجيا، مبني على إرث النهضة العمانية والاستجابة الى تطلعات المجتمع في إطار الخصوصية الثقافية والسياسية.
وفي هذا السياق، تُعد كلمة السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، في العيد الوطني العاشر عام 1980، واحدة من أكثر المحطات التأسيسية وضوحا في رسم العلاقة بين الشورى والجهاز الحكومي في الفكر السياسي العُماني. يقول فيها:
“لقد حدث في كثير من أنحاء العالم أنه كلما أخذت دولة حديثة بركب التطور والتقدم، كلما زادت تعقيدات جهازها الحكومي، بحيث أن أعمال ذلك الجهاز تميل إلى أن تصبح غير شخصية بصورة متزايدة، وبعيدة كل البعد عن تفهم حاجات المواطنين. هذه حالة لن نرضى بها، ولن نسمح بها في عمان. لذلك وحرصا منا على خدمة المواطنين، فقد أصدرنا أوامرنا إلى هيئة متخصصة لإجراء دراسة بهذا الشأن، وتقديم توصيات لتوسيع قاعدة الجهاز الاستشاري الحالي، من المواطنين، لحكومتنا، وذلك من أجل أخذ رغبات وحاجات المواطنين بعين الاعتبار في رسم سياستنا الوطنية.”
تؤسس هذه الكلمة السامية لدور مجلس الشورى على ركائز ثلاث:
  • أولا: أن يكون صدى لحاجات وتطلعات المواطنين.
  • وثانيا: أن يقي الجهاز الحكومي من الانزلاق نحو البيروقراطية أو التحول إلى إدارة “غير شخصية”.
  • وثالثا: أن خدمة المواطنين هي أساس صياغة السياسات العامة، ومبررا جوهريا لتوسيع قاعدة المشاركة في القرار.
هذا السياق التاريخي الدولي والمحلي، وان كان عرضا سريعا، يدعونا جميعا الى المبادرة الى تقديم الحلول والتصورات حول مسارات التطور لمسيرة الشورى العمانية والعمل كل من موقعه على تعزيزها وصولا الى الصيغة الأنسب لعمان ليس عبر قرون من المفاوضات كما في الحالة البريطانية، بل بوتيرة متسارعة تعبر عن العصر واداوته العلمية والتقنية.
ويمكن لعمان أن تختصر هذا التدرج مع الحفاظ على هويتها الوطنية، بفضل ما تحمله رؤية عُمان 2040، والنهضة المتجددة التي يقودها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، من أهداف طموحة كتحسين مؤشرات الحوكمة، ورفع كفاءة الأداء.
التجربة الشخصية: بين واقعية الهدف وطموح التغيير
من هذا المنطلق، اعرض بعضا من تجربتي المتواضعة من داخل مجلس الشورى. ترشّحت لعضوية مجلس الشورى مدركا لطبيعته الاستشارية، لكنني آمنت بالتدرج التاريخي في بناء المؤسسات، وبالأصالة التي يتمسك بها العمانيون، وبحجم التحديات المتراكمة منذ عامي 2011 و2015، من ارتفاع الدين العام وخدمته، إلى تذبذب الإيرادات، وتكاليف المعيشة، وتوفير فرص العمل، فسعيت وزملائي إلى استثمار الصلاحيات المتاحة لتكوين أرضية مشتركة بين المجلس والحكومة. هدفها تفعيل حوار مؤسسي فعّال يسهم في تعزيز كفاءة السياسات العامة.
الميزانية مرآة الأولويات
ركزتُ جزءا كبيرا من جهدي في مجلس الشورى على ملف الميزانية العامة للدولة، إيمانا بأنها تجسّد أولويات الإنفاق الحكومي، وتمثّل تقاطعا بين تمثيل المواطن، والتشريع، والرقابة، مما يجعلها من أهم أدوات العمل البرلماني.
وإذ نُحيي الحكومة على نجاحها في إدارة المالية العامة، وعودتها إلى التصنيف السيادي الاستثماري، والتحسن الذي لمسناه في مستوى العرض والتفاصيل، فإننا نسعى الى مزيد من التفعيل لدور المجلس في مناقشة أولويات التخصيص المالي، وتوجيه الموارد، وقياس العائد التنموي.
رغم أهمية البرامج الواردة في الخطة الخمسية العاشرة، إلا أن ما يُعرض على مجلس الشورى يقتصر على جداول موجزة تحتوي نسب إنجاز عامة، دون إتاحة بيانات تفصيلية تمكّن من التقييم الموضوعي. وعلى مدى دورتين لمجلس الشورى، لم تُقدَّم قائمة مكتملة بالمشاريع الانمائية المعتمدة ضمن الميزانية رغم الطلبات المتكررة، ومن بينها مقترحات شخصية بعقد جلسات نصف سنوية لمراجعة الأداء المالي مع وزارة المالية، وضبط آجال زمنية لرد الوزارة على ملاحظات المجلس، بما يساعده على القيام بدوره، خاصة في ظل الفارق الكبير في الإمكانيات والموارد بين الجانبين.
ورغم الموافقة المبدئية على تلك المقترحات، لم يتم تفعيلها. ولتجاوز هذا الخلل وضمان رقابة مؤسسية فعّالة، لا بد من اعتماد آليات واضحة تشمل تقديم قوائم المشاريع الإنمائية الى المجلس قبل اعتمادها في الميزانية، وتقديم تقارير دورية بمؤشرات أداء قابلة للقياس، وتحديد آجال ملزمة ومتبادلة للردود والتعقيبات.
من القانون إلى الممارسة: فجوة اللائحة الداخلية
صدر في عام 2021 المرسوم السلطاني رقم (7/2021) القاضي بإصدار قانون مجلس عُمان، والذي نصّ بوضوح على مسؤولية كل من مجلس الدولة ومجلس الشورى في وضع لائحته الداخلية، متضمنة حقوق وواجبات الأعضاء، وآليات تشكيل مكتب المجلس ولجانه، واختصاصات الرئيس ونائبيه، ونظام العمل، وقواعد النقاش والتصويت، وأصول حفظ النظام، واستخدام أدوات المتابعة.
اللائحة ليست شأنًا إجرائيًا فحسب، بل الإطار الذي يضمن أن يجد المواطن طريقًا مؤسسيًا لإيصال صوته ومتابعة أثره في القرار. وهي في الواقع تمثّل جوهر الأداء البرلماني وركيزته المؤسسية. فبموجبها تُحدد آليات اتخاذ القرار، وتُنظّم صلاحيات الأعضاء، وتنظم التفاعل بين المجلس والجهاز التنفيذي. ومع مرور الوقت، كشفت الممارسة العملية أن اللائحة الحالية ترسّخ ممارسات تحدّ من فاعلية الأعضاء وتُقيد حيوية النقاش. فقد تكررت حالات تقدّم فيها الأعضاء بطلبات مكتوبة أو مبادرات للنقاش، إلا أنها واجهت التأجيل أو الإهمال أو الرفض، بناء على تفسيرات لمواد اللائحة.
هذا الواقع أثار اسئلة جوهرية:
هل تُطبّق بعض مواد اللائحة بطريقة تُقيّد العمل البرلماني بدل أن تنظّمه؟
وهل تُستخدم لتعزيز مركزية الصلاحيات بدل تعزيز دور المجلس بكامل اعضائه؟
يعلق النائب الأمريكي المخضرم روبرت ميشيل على أهمية الاجراءات في العمل البرلماني بالقول:
الإجراءات لم تصبح فقط أكثر أهمية من الجوهر، بل أصبحت، من خلال عملية غريبة، جوهر مناقشاتنا. من يتحكم في إجراءات المجلس يتحكم في المجلس – بل ويتحكم في نوع ومدى النقاش السياسي في البلاد.
وإذ نقدر كافة الجهود في ادارة اعمال المجلس، والاجتهادات في تفسير النصوص، بغض النظر عن اتفاقنا معها، فالواقع في تجربتنا ان بعض الصلاحيات الجوهرية، مثل دعوة المجلس للاجتماع أو تحديد جدول أعماله، تتركز بحكم اللائحة في يد الرئاسة ومكتب المجلس. ورغم أن هذه المركزية قد تبدو منطقية من حيث التنظيم، إلا أنها تُنتج بنية داخلية تحدّ من فاعلية الأعضاء أفرادا ومجموعات، ما لم تُوازن بصلاحيات للأعضاء تمكّنهم من الرجوع الى المجلس بكامل هيئته عند الضرورة. يؤكد هذا المعنى البرلماني الأمريكي جون دينغل بقوله:
إن سمحت لي بكتابة الإجراءات، وأنت تكتب المضمون، فسأغلبك في كل مرة.
هذه العبارة ليست مبالغة، بل تعكس واقعا تتحول من خلاله اللوائح غير المتوازنة، بصيغها وآجالها وآلياتها، إلى قيود تحد من ممارسة صلاحيات المجلس التي حددها القانون، ومن هنا، فإن تطوير اللائحة الداخلية لمجلس الشورى العماني هو مفتاح إصلاح مؤسسي عميق، يمكّن المجلس من القيام بدوره الحقيقي في المشاركة الفاعلة في رسم السياسات، ومتابعة اداء الحكومة، وتمثيل المواطن.
مشروع لائحة التمكين لمجلس شورى أكثر فاعلية
وانطلاقا من هذه القناعة، ومع مضي خمس سنوات على صدور المرسوم السلطاني رقم (7/2021) دون تعديل اللائحة الداخلية التي تعود إلى عام 2012، بادرت وعدد من الزملاء من أعضاء المجلس، إلى إعداد مسودة شاملة لتطوير اللائحة، استهدفت معالجة مكامن الخلل التي أضعفت فاعلية المجلس، وتعزيز دوره كمؤسسة رقابية وتشريعية ناضجة. انطلقت المقترحات من مبدأ بسيط وواضح: أن تكون اللائحة أداة تمكين لا تقييد.
سعت المسودة إلى تفعيل دور الأغلبية البرلمانية وتمكين الأعضاء من تنسيق مواقفهم ضمن أطر مؤسسية شفافة، مع منحهم الحق في استخدام مرافق المجلس لعقد اجتماعات تشاورية تسهم في بلورة الرؤى والمواقف المشتركة. كما اقترحت آليات أكثر مرونة للدعوة إلى الجلسات وإدراج البنود في جدول الأعمال، بحيث لا يبقى القرار حكرا على جهة واحدة، بل يخضع لضوابط مؤسسية واضحة تُكفل فيها المشاركة المتوازنة.
وتضمّنت المقترحات كذلك إلزام مكتب المجلس بعرض الموضوعات المزمع مناقشتها مع مجلس الوزراء على المجلس نفسه لإقرارها، وربط تنفيذ طلبات الأعضاء بآجال زمنية محددة أو طرحها للتصويت عند اختلافه معها، تفعيلا لدور الاغلبية، ومبدأ المساءلة والشفافية. كما أوصت المسودة بإنشاء آلية دائمة لمتابعة التزامات الوحدات الحكومية عبر الأمانة العامة، وتقديم تقارير دورية للمجلس، إضافة إلى اعتماد ميزانية المجلس وحسابه الختامي من قبل المجلس نفسه لتكريس استقلاله المالي والإداري، فكيف لا يعتمد المجلس ميزانيته وهو من يقر الميزانية العامة للدولة.
ولأن الأداء البرلماني لا يكتمل دون دعم معرفي، فقد شملت المقترحات حق العضو الاستعانة بمستشارين متخصصين في شتى المجالات وفق قواعد متفق عليها، وعقد مؤتمر سنوي مفتوح في ختام كل دورة انعقاد يعرض فيه المجلس أعماله وإنجازاته أمام الرأي العام في تجسيد عملي لمبدأ الشفافية.
ورغم ما حظيت به هذه المبادرة من تقدير أولي، إلا أنها ما تزال، حتى الآن، تنتظر إدراجها على جدول أعمال المجلس لمناقشة موسّعة تساهم في إصلاح مؤسسي عميق.
خاتمة: الحوار لتطوير وإصلاح مؤسسي
ما ورد في هذه الورقة نافذة مقتضبة على بعض التحديات التي يواجهها عضو مجلس الشورى، وهي تحديات لا تُلغي حقيقة أن في كل ولاية ومؤسسة عضو ينهض بمسؤوليته بإخلاص، ويبذل جهده لمتابعة مصالح المواطنين، بصبر وثبات في سبيل أهداف وطنية كبرى كخفض تكاليف الحياة، وتوفير فرص العمل، وتحفيز الاقتصاد، وتحسين كفاءة تخصيص الموارد وجودة الخدمات العامة.
وإذ أعبّر عن خالص تقديري لإخواني في الجهاز الحكومي، وفي مجلس الشورى، وكل من يعمل بإخلاص لخدمة هذا الوطن العزيز، فإنني أرجو أن يجد القارئ فيما ورد هنا ما يسهم في إثراء الحوار الوطني، ويعكس الحرص المشترك على تحقيق غاية التطوير والإصلاح المؤسسي المتمثلة في تصميم قواعد عادلة وشفافة تحفز التعاون، وتحول تشتت المبادرات إلى تبادل مؤسسي منتج.
في الختام، أن كل رأي عبّرت عنه هنا إنما يصدر عن محبة خالصة، وإيمان راسخ بأننا جميعا شركاء في خدمة هذا الوطن العزيز، والوفاء لشعبه وسلطانه.
مع كل خطة خمسية جديدة، وميزانية جديدة، وكل قرار يؤثر على المواطن، تتجه الأنظار نحو مجلس الشورى، بحثا عن موقف أو دور واضح. فإلى أي حد يمكن للمجلس أن يؤثر فعليا في مراجعة تلك القرارات أو تطويرها؟
الأدوار المؤسسية في صناعة القرار
وللإجابة على هذا التساؤل، لا بد أولا من فهم طبيعة الدور المؤسسي لمجلس الشورى وآلية تأثيره في صناعة القرار، بوصفه حلقة وصل بين المواطن والجهاز التنفيذي. النفوذ السياسي للمجالس التشريعية يمارس من خلال التوافقات والتحالفات، وتُدار الخلافات ضمن أطر مؤسسية منظمة تتطلب التفاوض، والإقناع، وبناء الكتل، والعمل الجماعي المتراكم.
هذه البنية المؤسسية نشأت نتيجة تفاوض طويل الأمد بين مكونات المجتمع، واستجابت لتغيرات تاريخية وسياسية عميقة. ولهذا يشير أستاذ الاقتصاد العام ريتشارد كونجلتون في كتابه تجويد البرلمان إلى أن الإصلاحات التشريعية الحديثة في أوروبا جاءت كثمرة لمفاوضات معقّدة وطويلة بين الدولة والمجتمع.
ففي بريطانيا على سبيل المثال، بدأ تطور البرلمان مع الماجنا كارتا عام 1215، التي أرست مبدأ خضوع الجميع للقانون، وتواصل هذا التطور حتى إعلان الحقوق عام 1689، الذي منح البرلمان سلطة التشريع وفرض الضرائب. تلا ذلك بقرون قانون الإصلاح الانتخابي عام 1832، الذي وسّع قاعدة التمثيل الشعبي، وقانون البرلمان عام 1911، الذي قلّص سلطات مجلس اللوردات لصالح مجلس العموم المنتخب، واستمر التطور مع إدخال الاقتراع العام وتمكين النساء من التصويت عام 1918. هذه المسيرة، التي امتدت لأكثر من سبعة قرون، تُظهر أن بناء المؤسسات السياسية يتطلب صبرًا استراتيجيًا وتكيفًا مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية.
الكلمة التأسيسية: القرب من المواطن
وعلى الرغم من هذا التدرج، فلا تخلو النماذج الديمقراطية الغربية من علل بنيوية، مثل الشعبوية، والتحزّب، والمغالاة، وهيمنة المال السياسي. ولهذا لم يكن النهج العُماني يوما مع الاستيراد المباشر لأي نموذج سياسي، بل انطلق من مرجعيته الإسلامية كما في قوله تعالى: “وشاورهم في الأمر”، و”وأمرهم شورى بينهم” وعكس تطور مجلس الشورى منذ إنشائه عام 1991 نهجا تدريجيا، مبني على إرث النهضة العمانية والاستجابة الى تطلعات المجتمع في إطار الخصوصية الثقافية والسياسية.
وفي هذا السياق، تُعد كلمة السلطان قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، في العيد الوطني العاشر عام 1980، واحدة من أكثر المحطات التأسيسية وضوحا في رسم العلاقة بين الشورى والجهاز الحكومي في الفكر السياسي العُماني. يقول فيها:
“لقد حدث في كثير من أنحاء العالم أنه كلما أخذت دولة حديثة بركب التطور والتقدم، كلما زادت تعقيدات جهازها الحكومي، بحيث أن أعمال ذلك الجهاز تميل إلى أن تصبح غير شخصية بصورة متزايدة، وبعيدة كل البعد عن تفهم حاجات المواطنين. هذه حالة لن نرضى بها، ولن نسمح بها في عمان. لذلك وحرصا منا على خدمة المواطنين، فقد أصدرنا أوامرنا إلى هيئة متخصصة لإجراء دراسة بهذا الشأن، وتقديم توصيات لتوسيع قاعدة الجهاز الاستشاري الحالي، من المواطنين، لحكومتنا، وذلك من أجل أخذ رغبات وحاجات المواطنين بعين الاعتبار في رسم سياستنا الوطنية.”
تؤسس هذه الكلمة السامية لدور مجلس الشورى على ركائز ثلاث:
  • أولا: أن يكون صدى لحاجات وتطلعات المواطنين.
  • وثانيا: أن يقي الجهاز الحكومي من الانزلاق نحو البيروقراطية أو التحول إلى إدارة “غير شخصية”.
  • وثالثا: أن خدمة المواطنين هي أساس صياغة السياسات العامة، ومبررا جوهريا لتوسيع قاعدة المشاركة في القرار.
هذا السياق التاريخي الدولي والمحلي، وان كان عرضا سريعا، يدعونا جميعا الى المبادرة الى تقديم الحلول والتصورات حول مسارات التطور لمسيرة الشورى العمانية والعمل كل من موقعه على تعزيزها وصولا الى الصيغة الأنسب لعمان ليس عبر قرون من المفاوضات كما في الحالة البريطانية، بل بوتيرة متسارعة تعبر عن العصر واداوته العلمية والتقنية.
ويمكن لعمان أن تختصر هذا التدرج مع الحفاظ على هويتها الوطنية، بفضل ما تحمله رؤية عُمان 2040، والنهضة المتجددة التي يقودها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، من أهداف طموحة كتحسين مؤشرات الحوكمة، ورفع كفاءة الأداء.
التجربة الشخصية: بين واقعية الهدف وطموح التغيير
من هذا المنطلق، اعرض بعضا من تجربتي المتواضعة من داخل مجلس الشورى. ترشّحت لعضوية مجلس الشورى مدركا لطبيعته الاستشارية، لكنني آمنت بالتدرج التاريخي في بناء المؤسسات، وبالأصالة التي يتمسك بها العمانيون، وبحجم التحديات المتراكمة منذ عامي 2011 و2015، من ارتفاع الدين العام وخدمته، إلى تذبذب الإيرادات، وتكاليف المعيشة، وتوفير فرص العمل، فسعيت وزملائي إلى استثمار الصلاحيات المتاحة لتكوين أرضية مشتركة بين المجلس والحكومة. هدفها تفعيل حوار مؤسسي فعّال يسهم في تعزيز كفاءة السياسات العامة.
الميزانية مرآة الأولويات
ركزتُ جزءا كبيرا من جهدي في مجلس الشورى على ملف الميزانية العامة للدولة، إيمانا بأنها تجسّد أولويات الإنفاق الحكومي، وتمثّل تقاطعا بين تمثيل المواطن، والتشريع، والرقابة، مما يجعلها من أهم أدوات العمل البرلماني.
وإذ نُحيي الحكومة على نجاحها في إدارة المالية العامة، وعودتها إلى التصنيف السيادي الاستثماري، والتحسن الذي لمسناه في مستوى العرض والتفاصيل، فإننا نسعى الى مزيد من التفعيل لدور المجلس في مناقشة أولويات التخصيص المالي، وتوجيه الموارد، وقياس العائد التنموي.
رغم أهمية البرامج الواردة في الخطة الخمسية العاشرة، إلا أن ما يُعرض على مجلس الشورى يقتصر على جداول موجزة تحتوي نسب إنجاز عامة، دون إتاحة بيانات تفصيلية تمكّن من التقييم الموضوعي. وعلى مدى دورتين لمجلس الشورى، لم تُقدَّم قائمة مكتملة بالمشاريع الانمائية المعتمدة ضمن الميزانية رغم الطلبات المتكررة، ومن بينها مقترحات شخصية بعقد جلسات نصف سنوية لمراجعة الأداء المالي مع وزارة المالية، وضبط آجال زمنية لرد الوزارة على ملاحظات المجلس، بما يساعده على القيام بدوره، خاصة في ظل الفارق الكبير في الإمكانيات والموارد بين الجانبين.
ورغم الموافقة المبدئية على تلك المقترحات، لم يتم تفعيلها. ولتجاوز هذا الخلل وضمان رقابة مؤسسية فعّالة، لا بد من اعتماد آليات واضحة تشمل تقديم قوائم المشاريع الإنمائية الى المجلس قبل اعتمادها في الميزانية، وتقديم تقارير دورية بمؤشرات أداء قابلة للقياس، وتحديد آجال ملزمة ومتبادلة للردود والتعقيبات.
من القانون إلى الممارسة: فجوة اللائحة الداخلية
صدر في عام 2021 المرسوم السلطاني رقم (7/2021) القاضي بإصدار قانون مجلس عُمان، والذي نصّ بوضوح على مسؤولية كل من مجلس الدولة ومجلس الشورى في وضع لائحته الداخلية، متضمنة حقوق وواجبات الأعضاء، وآليات تشكيل مكتب المجلس ولجانه، واختصاصات الرئيس ونائبيه، ونظام العمل، وقواعد النقاش والتصويت، وأصول حفظ النظام، واستخدام أدوات المتابعة.
اللائحة ليست شأنًا إجرائيًا فحسب، بل الإطار الذي يضمن أن يجد المواطن طريقًا مؤسسيًا لإيصال صوته ومتابعة أثره في القرار. وهي في الواقع تمثّل جوهر الأداء البرلماني وركيزته المؤسسية. فبموجبها تُحدد آليات اتخاذ القرار، وتُنظّم صلاحيات الأعضاء، وتنظم التفاعل بين المجلس والجهاز التنفيذي. ومع مرور الوقت، كشفت الممارسة العملية أن اللائحة الحالية ترسّخ ممارسات تحدّ من فاعلية الأعضاء وتُقيد حيوية النقاش. فقد تكررت حالات تقدّم فيها الأعضاء بطلبات مكتوبة أو مبادرات للنقاش، إلا أنها واجهت التأجيل أو الإهمال أو الرفض، بناء على تفسيرات لمواد اللائحة.
هذا الواقع أثار اسئلة جوهرية:
هل تُطبّق بعض مواد اللائحة بطريقة تُقيّد العمل البرلماني بدل أن تنظّمه؟
وهل تُستخدم لتعزيز مركزية الصلاحيات بدل تعزيز دور المجلس بكامل اعضائه؟
يعلق النائب الأمريكي المخضرم روبرت ميشيل على أهمية الاجراءات في العمل البرلماني بالقول:
الإجراءات لم تصبح فقط أكثر أهمية من الجوهر، بل أصبحت، من خلال عملية غريبة، جوهر مناقشاتنا. من يتحكم في إجراءات المجلس يتحكم في المجلس – بل ويتحكم في نوع ومدى النقاش السياسي في البلاد.
وإذ نقدر كافة الجهود في ادارة اعمال المجلس، والاجتهادات في تفسير النصوص، بغض النظر عن اتفاقنا معها، فالواقع في تجربتنا ان بعض الصلاحيات الجوهرية، مثل دعوة المجلس للاجتماع أو تحديد جدول أعماله، تتركز بحكم اللائحة في يد الرئاسة ومكتب المجلس. ورغم أن هذه المركزية قد تبدو منطقية من حيث التنظيم، إلا أنها تُنتج بنية داخلية تحدّ من فاعلية الأعضاء أفرادا ومجموعات، ما لم تُوازن بصلاحيات للأعضاء تمكّنهم من الرجوع الى المجلس بكامل هيئته عند الضرورة. يؤكد هذا المعنى البرلماني الأمريكي جون دينغل بقوله:
إن سمحت لي بكتابة الإجراءات، وأنت تكتب المضمون، فسأغلبك في كل مرة.
هذه العبارة ليست مبالغة، بل تعكس واقعا تتحول من خلاله اللوائح غير المتوازنة، بصيغها وآجالها وآلياتها، إلى قيود تحد من ممارسة صلاحيات المجلس التي حددها القانون، ومن هنا، فإن تطوير اللائحة الداخلية لمجلس الشورى العماني هو مفتاح إصلاح مؤسسي عميق، يمكّن المجلس من القيام بدوره الحقيقي في المشاركة الفاعلة في رسم السياسات، ومتابعة اداء الحكومة، وتمثيل المواطن.
مشروع لائحة التمكين لمجلس شورى أكثر فاعلية
وانطلاقا من هذه القناعة، ومع مضي خمس سنوات على صدور المرسوم السلطاني رقم (7/2021) دون تعديل اللائحة الداخلية التي تعود إلى عام 2012، بادرت وعدد من الزملاء من أعضاء المجلس، إلى إعداد مسودة شاملة لتطوير اللائحة، استهدفت معالجة مكامن الخلل التي أضعفت فاعلية المجلس، وتعزيز دوره كمؤسسة رقابية وتشريعية ناضجة. انطلقت المقترحات من مبدأ بسيط وواضح: أن تكون اللائحة أداة تمكين لا تقييد.
سعت المسودة إلى تفعيل دور الأغلبية البرلمانية وتمكين الأعضاء من تنسيق مواقفهم ضمن أطر مؤسسية شفافة، مع منحهم الحق في استخدام مرافق المجلس لعقد اجتماعات تشاورية تسهم في بلورة الرؤى والمواقف المشتركة. كما اقترحت آليات أكثر مرونة للدعوة إلى الجلسات وإدراج البنود في جدول الأعمال، بحيث لا يبقى القرار حكرا على جهة واحدة، بل يخضع لضوابط مؤسسية واضحة تُكفل فيها المشاركة المتوازنة.
وتضمّنت المقترحات كذلك إلزام مكتب المجلس بعرض الموضوعات المزمع مناقشتها مع مجلس الوزراء على المجلس نفسه لإقرارها، وربط تنفيذ طلبات الأعضاء بآجال زمنية محددة أو طرحها للتصويت عند اختلافه معها، تفعيلا لدور الاغلبية، ومبدأ المساءلة والشفافية. كما أوصت المسودة بإنشاء آلية دائمة لمتابعة التزامات الوحدات الحكومية عبر الأمانة العامة، وتقديم تقارير دورية للمجلس، إضافة إلى اعتماد ميزانية المجلس وحسابه الختامي من قبل المجلس نفسه لتكريس استقلاله المالي والإداري، فكيف لا يعتمد المجلس ميزانيته وهو من يقر الميزانية العامة للدولة.
ولأن الأداء البرلماني لا يكتمل دون دعم معرفي، فقد شملت المقترحات حق العضو الاستعانة بمستشارين متخصصين في شتى المجالات وفق قواعد متفق عليها، وعقد مؤتمر سنوي مفتوح في ختام كل دورة انعقاد يعرض فيه المجلس أعماله وإنجازاته أمام الرأي العام في تجسيد عملي لمبدأ الشفافية.
ورغم ما حظيت به هذه المبادرة من تقدير أولي، إلا أنها ما تزال، حتى الآن، تنتظر إدراجها على جدول أعمال المجلس لمناقشة موسّعة تساهم في إصلاح مؤسسي عميق.
خاتمة: الحوار لتطوير وإصلاح مؤسسي
ما ورد في هذه الورقة نافذة مقتضبة على بعض التحديات التي يواجهها عضو مجلس الشورى، وهي تحديات لا تُلغي حقيقة أن في كل ولاية ومؤسسة عضو ينهض بمسؤوليته بإخلاص، ويبذل جهده لمتابعة مصالح المواطنين، بصبر وثبات في سبيل أهداف وطنية كبرى كخفض تكاليف الحياة، وتوفير فرص العمل، وتحفيز الاقتصاد، وتحسين كفاءة تخصيص الموارد وجودة الخدمات العامة.
وإذ أعبّر عن خالص تقديري لإخواني في الجهاز الحكومي، وفي مجلس الشورى، وكل من يعمل بإخلاص لخدمة هذا الوطن العزيز، فإنني أرجو أن يجد القارئ فيما ورد هنا ما يسهم في إثراء الحوار الوطني، ويعكس الحرص المشترك على تحقيق غاية التطوير والإصلاح المؤسسي المتمثلة في تصميم قواعد عادلة وشفافة تحفز التعاون، وتحول تشتت المبادرات إلى تبادل مؤسسي منتج.
في الختام، أن كل رأي عبّرت عنه هنا إنما يصدر عن محبة خالصة، وإيمان راسخ بأننا جميعا شركاء في خدمة هذا الوطن العزيز، والوفاء لشعبه وسلطانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى