عشرون عامًا في قلب النظام الصحي العُماني: رؤية من الداخل

بقلم: الدكتور موسى أبو صبيح ” كاتب أردني ”
في خضم التحولات الصحية العالمية المتسارعة، تبرز بعض الأنظمة الصحية كنماذج للثبات والمرونة. بعد عشرين عاما من العمل كإستشاري تمريض في المديرية العامة لشؤون التمريض بديوان عام وزارة الصحة في سلطنة عمان، وبعد مرور عامين على استقالتي، أقدم هنا شهادة موضوعية عن تجربة مهنية عميقة، خالية من أي تحيز أو مجاملة، مستندة إلى معايشة مباشرة لنظام صحي متميز.
*صمود في مواجهة الأزمات*
أثبت النظام الصحي العُماني قدرته على تحمل التحديات الكبرى، من إعصار “جونو” إلى “فيت”، وصولا إلى جائحة كورونا. هذا الصمود لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة بنية تحتية مرنة ومتكاملة، قادرة على استيعاب الأزمات مع الحفاظ على استمرارية الخدمات الصحية دون إرهاق المرافق.
*إدارة مسطحة تُعزز الكفاءة*
يتميز النظام الصحي العُماني بهيكلية إدارية مسطحة، تتيح التواصل المباشر بين الموظفين وصناع القرار، بغض النظر عن المستوى الوظيفي. هذه البنية قللت من البيروقراطية، وسرعت عمليات اتخاذ القرار، وأسهمت في بناء ثقة متبادلة بين الكوادر والإدارة، مما عزز من كفاءة الأداء.
*عدالة صحية وتغطية شاملة*
حرصت السلطنة على توفير خدمات صحية متاحة في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك المناطق النائية. هذه السياسة خففت الضغط على المستشفيات المرجعية في المدن الكبرى، وأسهمت في تحقيق العدالة الصحية، وضمان وصول الرعاية إلى كل مواطن ومقيم، بغض النظر عن موقعه الجغرافي.
*نظام صحي إنساني غير ربحي*
يتمحور النظام الصحي العُماني حول المريض، بعيدا عن الأهداف الربحية. فالرسوم الرمزية التي تُحصل من متلقي الخدمات تعكس فلسفة إنسانية، جعلت الرعاية الصحية في متناول الجميع، وعززت ثقة المجتمع في المنظومة الصحية.
*الكوادر الوطنية: ركيزة الاستدامة*
عززت سياسة الاعتماد على الكفاءات العُمانية في التخصصات الطبية والتمريضية استقرار النظام الصحي. هذه الاستراتيجية قللت من الاعتماد على العمالة الوافدة، وأسست لنظام مستدام قادر على التطور الذاتي، مما عزز من مرونته وقوته.
*التدريب المستمر: استثمار في الكفاءات*
حرص النظام الصحي العُماني على تعزيز مهارات كوادره من خلال برامج تدريبية مستمرة وورش عمل متخصصة. هذه الجهود لم تقتصر على الكوادر الوطنية، بل شملت الوافدين، مما ساهم في رفع مستوى الأداء المهني، ومواكبة أحدث التطورات العلمية والطبية، وضمان تقديم خدمات صحية بجودة عالمية.
*التحول الرقمي: دفعة نحو المستقبل*
تبنى النظام الصحي العُماني تقنيات حديثة مثل السجلات الصحية الإلكترونية وأنظمة إدارة المرضى، مما سهل تتبع الحالات الطبية، وقلل من الأخطاء، وسرّع تقديم الخدمات. هذا التحول الرقمي عزز من كفاءة المنظومة، وساهم في تقديم رعاية متكاملة، خاصة خلال الأزمات الصحية التي تتطلب استجابة سريعة.
*بيئة عمل مستقرة ومحفزة*
ساهم التصنيف الوظيفي العادل وسلم الرواتب المتوازن في استقطاب الكفاءات والحفاظ عليها. إضافة إلى ذلك، وفر الأمان الوظيفي وبيئة العمل الإيجابية استقرارا مهنيا، عزز الولاء المؤسسي، وقلل من معدلات التسرب الوظيفي.
*قيادة ميدانية قريبة*
تميزت الإدارة الصحية بقرب المسؤولين من مواقع تقديم الخدمة، مما سهل التواصل وحل المشكلات بسرعة وفعالية. هذا النهج عزز الثقة بين القيادة والكوادر، وخلق بيئة عمل تعاونية ومهنية.
*الوقاية والتوعية: بناء مجتمع صحي*
إلى جانب تقديم الرعاية العلاجية، ركز النظام الصحي العُماني على تعزيز الوعي الصحي من خلال حملات توعية مكثفة وبرامج وقائية، مثل التطعيمات وفحوصات الكشف المبكر. هذه الجهود ساهمت في خفض معدلات الأمراض المزمنة، وعززت من جودة الحياة، مما يعكس رؤية استباقية للصحة العامة.
*التعاون الدولي: جسر لتبادل الخبرات*
استفاد النظام الصحي العُماني من التعاون مع منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية، وشارك في تبادل الخبرات مع دول أخرى. هذا التعاون عزز قدرات النظام في مواجهة التحديات الصحية العالمية، وساهم في تبني أفضل الممارسات الدولية في تقديم الرعاية الصحية.
*كلمة ختامية*
لا يخلو أي نظام من التحديات، لكنني اخترت في هذا المقال تسليط الضوء على نقاط القوة التي لمستها خلال عقدين من العمل. النظام الصحي العُماني، كما عايشته، نموذج للاستقرار والمرونة والعدالة. وبعد مرور عامين على استقالتي، أكتب هذه الشهادة من خارج السلطنة، بكل صدق وامتنان لهذه التجربة المهنية المميزة.



