المقالات

الشيخ هلال اليحمدي يلحق بالرباط العماني ويضاعف غياب جغرافيتنا الحميمية بمكة

بقلم: حمود بن سالم السيابي

كان يسكن شقة في الدور الثامن من بيت الرباط العماني بحارة الباب.
وكانت صفقة الباب وهو يغلق شقته وصرير المصعد القديم وهو ينزل به إلى الأسفل في طريقه للحرم لصلاة الفجر “المنبِّه” الآسر ليستيقظ المبنى فيمشي سكان شقق البيت خلفه ومعهم رائحة مكة والصيف وهدير “الوايتات” الناقلة للمياه لبيوت الشبيكة وصخب الخطوات إلى باب العمرة.
وكثيرا ما تشرق الشمس من مصحفه وهو في جلسته بصحن الكعبة يرتل قرآن الفجر.
وبعد ركعتي الضحى يعود الشيخ هلال بن ناصر اليحمدي المشرف على بيت الرباط العماني وديعة المحسن العماني السيد حمود بن أحمد البوسعيدي ويكون أبو عبدالله جعفر المقيم بنفس البيت قد ملأ دلال القهوة ، فيعود معه بعض الحجاج والعمار من العمانيين المقيمين ببيتي الرباط الأول والثاني أو بالفنادق والبيوت في “الشبيكة” و”حارة الباب” وحارة “جرْول” لتبدأ قهوة الصباح.
وكنتُ أمرُّ على فوالته لأجلس مع من يفطرون على الرطيبات القادمة إليه مع حملات المعتمرين ، أو التي أُرْسِلتْ طازجة من سقي المنترب والحيلي ومياه عين حبسين.
وكان الشيخ هلال بن ناصر اليحمدي بوجهه الودود وعمامته البيضاء قد جعل من بيت الرباط سبلة عمانية بامتياز ، بل سبلة من سبلات بديَّة لولا غياب كثبان الرمل وحفيف النخل ونشيج السواقي وصهيل الخيول.
وكما تشرق الشمس من مصحفه في صحن الكعبة لتبدأ سبلة الصباح ، كانت تغرب أيضا على أهداب عمامته فتتسحَّب ظلال الأهداب من سطور المصحف ومن أرقام الآيات وزخارف المرفع وهو على جلسته قبالة حجر إسماعيل وأمامه الميزاب والمرمر الأبيض الذي افترشه الرّكَّع السجود ، فيعود بعد العشاءين لرمسة المساء ولحديث الفناجين والدلال.
وكثيرا ما صادفتُ الشيخ اليحمدي يجلس بين كوكبة من المعتمرين العمانيين لينبِّههم بأمور الدنيا والدين ، ويبيّن لهم المناسك ، ويرشدهم ليكونوا خير ضيوف على البيت العتيق وأحسن السفراء للوطن.
هناك عرفتُ الشيخ هلال بن ناصر اليحمدي الرجل النقي التقي الذي هيأ له الله تلك المنزلة الرفيعة فيجاور البيت العتيق ويكتحل بالنظر إلى الكعبة والحطيم وزمزم صباح مساء.
وهناك اقتربتُ من الشيخ اليحمدي ومن حكاياته المكية والعمانية.
وفي سبلته ببيت الرباط كان دائم الحديث عن مكة وكأنه ابن المكان وابن أروماتها رغم إن اليحمد من قحطان بينما تتباهى قريش بمضر وعدنان.
وإذا ما جاء ذكر المحسن العماني السيد حمود بن أحمد البوسعيدي فتح الشيخ اليحمدي صفحة النبل لرجل أقام هذا الرباط ضمن حزمة شملت بيوتا للايواء ورحى لطحن الحبوب فيستذكر فضل الوقف والصدقات الجارية ، ويعدد الوجوه التي مرت ببيت الرباط كما سمع من لسان من سبقه أو الذبن رآهم واقتسم معهم التميرات ونكهة الفناجين.
وإذا ما هبَّتْ “الكوس” تذكر الصبا فسالتْ مدامع الشوق وعادتْ بديّة إلى قهوة الصباح ومعها أسارير الشيخ اليحمدي وسِيَر آبائه الميامين ومواسم التبسيل والزمن الجميل للإمام الخليلي وأسلافه العظام أمثال سالم بن راشد الخروصي وعزان بن قيس.
ودارتْ الأيام وإذا بمكة التي أعرفها زمن الشيخ هلال اليحمدي لم تعد نفس مكة ، لولا البيت العتيق وصوت المؤذن الذي لم يتغير.
ولولا ترتيل الشيخ سديس وبكاء الشريم الذي يعيد صحن الكعبة في صلاة الفجر لزمن يوم الفتح.
حتى الوجوه التي ألفتها في مكة طوال السنين لم أعد أراها ، ولا الباعة ولا المكتبات ولا لافتات الدكاكين ولا هدير “الوايتات” ، بعد أن شرَّقتْ وغرَّبتْ بالجميع الأيام ، وتفرَّق من أعرفهم أيدي سبأ.
وكانت خسارة حارة الشبيكة الجارة للحرم هي الأكبر ، إذ اختفتْ من الجغرافيا المكية لتصبح أثرا بعد عين ، فداستها جنازير البلدوزر والتهمتْ بيوتها واجتثّتْ جبالها وأكلتْ سكيكها وبعثرتْ كل الذكريات.
وحظّ بيت الرباط العماني لم يكن بأفضل من الشبيكة بل انطمس معها وإلى الأبد ، فدخل ضمن توسعة الملك عبدالله ولتغيب صفقة باب الدور الثامن وصرير المصعد القديم وسبلة الاستقبال وقهوة الصباح والرطيبات التي تحملها باصات حملات المعتمرين وتميرات بديّة التي يقلعها جعفر من “الضميدة” كل صباح.
وعاد الشيخ هلال بن ناصر اليحمدي المشرف على بيت الرباط العماني إلى بلدته بديّة فيطفئ الشوق لمكة بالجلوس بمسجد حارته والتطواف بالمروج والأفلاج وكثبان الرمول التي تغسلها برودة هبوب الكوس.
وليت الأمر توقف عند هذا الحد بل تعدّاه لتضج صفحات التواصل والجروبات بفاجعة نعي الشيخ هلال بن ناصر اليحمدي الذي فاضت روحه اليوم السبت الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٢١ م فالتحق بكل الذين غيبتهم الأيام وغيبت معهم المساحات الحميميمة في جغرافية مكة .
ورحيل الشيخ اليحمدي ينكأ جرحا عميقا معه ومع مكة.
ويتضاعف الوجع بفقده لدى الذين زاروا مكة والشيخ هلال اليحمدي يومذاك هناك.
ويوجع رحيله كل الذين عرفوه ومرّوا ببيت الرباط ، أو مشوا معه لصلاة الفجر ، أو لازموه في الأصيل والعشاءين في صحن الكعبة أو تحت أقواس التوسعة العثمانية .
ومع تناقص قوائم الذين نعرفهم نتداوى بارتياد الأمكنة المعطرة بالذكريات فنشد الرحال لعلنا نستريح.
إلا أن حرائقنا تزداد اشتعالا فنقيم عزاءين ، أحدهما لفراق من عرفناه والثاني لغربة الأمكنة التي تم محوها من الخارطة وصودرت فيها الذكريات .
فلا نحن بقينا مكاننا لنعلل النفس بالصبر ، ولا سافرنا لنطفئ الشوق فيصدق علينا قول الشاعر محمود درويش:
“كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ،
والمدنَ الساحرةْ
كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّي
وأصبح خاطرةً عابرةْ
كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى