أين نحن من المدن الرقمية؟ وادي السيليكون العُماني

بقلم: علي سالم المجيني
تربوي وخبير تخطيط
في زمنٍ تُقاس فيه الدول بسرعة الإنترنت، وتُصنّف المدن حسب توفيرالتقنيات المتقدمة بها لتحسين جودة الحياة ، يحق لنا أن نسأل: أين نحن من المدن الرقمية؟ وهل وادي السيليكون العُماني مجرد اسم في ورقة عمل، أم حلم ينتظرإشارة (واي فاي ) ؟
فالمدن الذكية هي بيئات ذات نمط حضاري تستخدم التكنولوجيا : تشمل البنية التحتية الرقمية، والبيانات المفتوحة، والنقل الذكي، والطاقة المستدامة.
لم يكن اختيار اسم (وادي السيليكون) وليد الصدفة، بل جاء ليعكس جوهر التحول الصناعي الذي شهدته منطقة جنوب سان فرانسيسكو بأمريكا في سبعينيات القرن الماضي، حين أصبحت مركزاً لصناعة الشرائح الإلكترونية المصنوعة من مادة السيليكون ، هذه المادة كانت العمود الفقري لأشباه الموصلات، التي بدورها شكّلت الأساس لكل ما نعرفه اليوم من أجهزة رقمية وتقنيات ذكية ، فقد خرجت من هذا الوادي اختراعات غيرت شكل الحياة: الحاسوب الشخصي، الإنترنت، الهواتف الذكية، الذكاء الاصطناعي، وحتى السيارات ذاتية القيادة.
اسم هذا الوادي استلهمت من خلاله العديد من الدروس ، فكل مجتمع يسعى إلى التحول الرقمي يحتاج إلى بيئة تشبه الوادي، لا بجباله وﻻ تضاريسه، بل بالتوجه الى ثقافة الابتكار، والسعي للوصول الى شغف التجربة، ويتمكن التعليم للنهوض بالاقتصاد، وربط كل خيال تقني بالواقع.
وحيث نعلم ان واحة المعرفة و التي تعد نواة حقيقية ل (وادي السيليكون ) و القريبة من جامعة السلطان قابوس بالخوض لها دور كبير في احتضان المؤسسات التكنولوجية العالمية منها والمحلية والتي تعمل في نفس المجال حيث بلغت 200 شركة ومؤسسة حكومية وشبه حكومية، بما في ذلك شركات عالمية في قطاع تقنية المعلومات والاتصالات ، من بين هذه الشركات: شركة مايكروسوفت، وشركة أوراكل، وشركة موتورولا ، وغيرها ، ومركزا مهما شاملا للابتكار.
كما ان العمل ساري الى تحويل الواحة الى المدن الذكية مثل ادارة المباني والري الذكي وادارة النفايات والاضاءة والامن وتطوير البنية التحتية مثل انشاء طريق دائري ومواقف للسيارات متعددة الطوابق .
كذلك من هذه المشاريع محطة الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية باستثمار يتجاوز 4 ملايين ريال عُماني، ويُصنَّف هذا المشروع أحد المشاريع الاقتصادية الواعدة للسلطنة بشكل عام وللواحة بشكل خاص؛ نظرًا للنقلة النوعية التي يحدثها هذا المشروع في قطاع خدمات الاتصالات، والخدمات المصرفية والنفطية والتجارية والتعليمية والحكومية وغيرها.
ومن بين الركائز الأساسية التي لا يمكن تجاهلها في هذا التحول، مركز البيانات الوطني، الذي يُعد بمثابة ( الذاكرة الرقمية) لعُمان. فهذا المركز لا يكتفي بتخزين المعلومات الحكومية، بل يُشكل منصة استراتيجية لتحليل البيانات الضخمة (Big Data) ودعم اتخاذ القرار ، وتأمين الخدمات الرقمية.
عُمان أطلقت عدة مبادرات رقمية ضمن رؤية 2040، أبرزها مدينة السلطان هيثم الذكية، ومشاريع التحول الرقمي في الخدمات الحكومية.
عمان لديها المساعي الحثيثة لللابتكار وتهيئة الحاضنات المشجعة والداعمة وتشجيع الاطر والجوانب العلمية والتقنية وتسهيل قيام الشركات الصغيرة والمتوسطة المبتكرة و دعمها فكريا و تقنيا و ماديا .
لقد تحسنت عمان في مؤشرات الابتكار:حيث جاءت في المرتبة 74 عالميًا لعام 2024، والمرتبة 43 في مؤشر مؤسسات ذات الاستثمارات الضخمة في الطاقة النظيفة والتقنيات المستقبلية: مثل مشروع الهيدروجين الأخضر(هايدروم) باستثمارات ضخمة .
نريد عمان ان يكون لها علما و راية في سوق التقنيات العالمية تحاكي نموذج وادي السيليكون في امريكا ووادي السيليكون شنتشن في الصين ووادي السيليكون ببنجلور في الهند ووادي السيليكون ببرلين في المانيا .
وفي سباق هذا الابتكار العالمي، يبدو أننا ما زلنا نربط حذاءنا في المارثون العالمي التقني ، بينما الآخرون يقتربون من خط النهاية… بل ويبدأون سباقًا جديدًا!
فوفقًا لبيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية(WIPO) وتقارير الابتكار العالمية، يُسجَّل سنويًا أكثر (3.4) مليون براءة اختراع حول العالم، أي ما يعادل قرابة (9,300) ابتكارا جديدا يوميًا، أو ابتكارا واحدا كل 9 ثوانٍ تقريبًا. هذه الابتكارات تشمل كل شيء من الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة إلى الطب والزراعة الذكية، وتعيد رسم خريطة الاقتصاد والتقنية بوتيرة مذهلة.
أما في سلطنة عُمان، بحسب بيانات وزارة التجارة والصناعة و ترويج الاستثمار فقد بلغ عدد طلبات براءات الاختراع المسجَّلة خلال سنه و نصف تقريبا (من 2024 حتى منتصف 2025 ) حوالي (1,253) طلبًا، أي بمعدل يقارب (835) طلبًا سنويًا، أو طلبين إلى ثلاثة طلبات يوميًا. ورغم أن هذا الرقم متواضعا مقارنة بالإيقاع العالمي، فإنه يعكس نموًا ملحوظًا في ثقافة الابتكار محليًا، خاصة مع دخول مجالات مثل الطاقة المتجددة، الذكاء الاصطناعي، الروبوتات، والتقنيات المختلفة ضمن طلبات براءة اﻻختراع . ويفتح الباب أمام فرص هائلة إذا ما تهيأت البيئة المناسبة لها .
وإذا كان العالم يضيف ابتكارًا جديدًا كل بضع ثوانٍ، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا : هل نستطيع اللحاق بالركب؟ بل: هل نملك الشجاعة لتهيئة بيئة تجعل الابتكار عادة يومية في عُمان، فتهيئة البنية التشريعية، وتبسيط الإجراءات، ودعم العقول الشابة ليست رفاهية، بل استثمارا في بقائنا على خريطة المستقبل.
ولكي تتحول عُمان إلى وادي السيليكون ، تحتاج إلى بناء منظومة متكاملة تجمع بين التعليم، و البحث، و ريادة الأعمال، والبنية التحتية الرقمية، مستلهمة من تجارب أمريكا، والصين، وبرلين، ولكن بصيغة عمانية تراعي الخصوصية الثقافية والاقتصادية.
في قلب رؤية عُمان 2040، ينبض طموحٌ واضح نحو التحول من اقتصاد ريعي يعتمد على الموارد الطبيعية، إلى اقتصاد معرفي رقمي يُنتج الأفكار ويُصدّر الابتكار ، فقد تم تحديد هدف استراتيجي يتمثل في رفع مساهمة الاقتصاد الرقمي إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2040 ، وهو مؤشر ليس فقط على الرغبة في رقمنة الخدمات، بل الى السعي لتأسيس بيئة معرفية متكاملة.
هذا التوجه يفتح الباب أمام استلهام نموذج وادي السيليكون ، ليس كنسخة مستوردة، بل كمنظومة محلية ،وإذا كانت الخوض تحتضن جامعة السلطان قابوس، ومجمع الابتكار، ومراكز بحثية ناشئة، فإنها مرشحة لتكون نواة هذا التحول، بشرط أن تتحول الرؤية إلى ممارسة، والخطط إلى مشاريع قابلة للقياس، والمبادرات إلى ثقافة يومية في المؤسسات والمجتمع.
وهنا ﻻبد أن يأتي دور للحكومة الرشيدة التوجه لكي يتم توزيع وجود هذه المدن الذكية كما هو الحال في واحة المعرفة لتكون في محافظات السلطنة بداية بصحار والدقم لتأخذ مكانها واهميتها عن قرب ، لوجود البيئات المناسبة من قوى بشرية مبتكرة و دعم لوجستي مناسب ينشئ جيوبا حاضنة لتطوير الاعمال وتكون واحة المعرفة بمسقط هي الادارة الرئيسة لمتابعة اعمال المدن الذكية في تلك المحافظات .
وفي خضم الحديث عن الابتكار المحلي وبناء وادي سيليكون عماني، لا بد من التوقف عند آلاف مشاريع التخرج التي أبدعها طلبة المؤسسات التعليمية العليا في مجالات الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، الطاقة المتجددة، والأنظمة الذكية. هذه المشاريع، التي أُجيزت أكاديميًا، غالبًا ما تُركن في الأدراج بعد التخرج، وكأنها نماذج أولية لمعرض لا يُفتتح.
لو أن الحكومة أنشأت نواة ابتكارية داخل كل كلية علمية، تُعنى بمشاريع التخرج الذكية المجازة، وقدّمت لأصحابها دعمًا ماليًا وتوجيهيًا لتأسيس شركاتهم، لربما رأينا وادي السيليكون العماني ينبض بالحياة من قلب الكليات، لا من خطط معلقة في الهواء.
إنها ليست مجرد بحوث جامعية، بل بذور ابتكار قابلة للزراعة في سوق التكنولوجيا، لو وجدت من يسقيها بالرؤية والدعم.
وقبل ذلك لا بد من قيام وزارة التربية و التعليم بأستحداث مناهج دراسية حديثة و متطورة تساعد في خلق افكار ابداعية مع الطلبة مثل منهج في الذكاء الاصطناعي يقدم جيلا واعيا قادرا على الابتكار و السير الى خطى الدول المتقدمة ، حيث بدأت من فترة بعض دول الخليج من جعل مادة الذكاء اﻻصطناعي مطبقة في المناهج الدراسية من بداية الصف الرابع .
قرأت قبل فترة ليست بالقصيرة ان احدى المدارس الخاصة بالسلطنة كافأت الطلبة المتميزيين في اقامة رحلة علمية لهم الى وكالة ناسا لمشاهدة مدينة اطلاق الصواريخ الى الفضاء في الولايات المتحدة الامريكية ، فتركيز المدارس سواء الحكومية منها والخاصة على مثل هذه الرحلات العلمية سيكون لها الاثرالبالغ في عقول الطلبة وينشئ جيلا مطلعا الى المعارف العلمية والتقنية التي تتزاحم بها الدول المتقدمة .
عمان، التي أبهرت العالم يومًا بنظام الأفلاج، تقف اليوم أمام تحدٍ جديد: أن تتحول من دولة ذات إرث حضاري إلى دولة ذات ذكاء اصطناعي.
المبادرات كثيرة، والرؤى طموحة، لكن الواقع… يحتاج إلى تحديث وخلق وتطوير واحتنا لتكون وادي السيليكون العماني باقتدار.



