المقالات

المجالس البلدية ومجلس عمان

بقلم الدكتور : سالم بن سلمان الشكيلي

تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال ، المجالس البلدية من حيث اختصاصاتها والمهام الموكولة إليها ، ولم يكن الهدف من ذلك هو التنظير كما حلا للبعض تسميته ، وهذا البعض إنما أراد بذلك التشكيك كعادتهم ، وليس لهم إلا ذاك ولا نتوقع منهم غيره ، أقول ، لم يكن هدفنا اجترار النظريات وسوقها سَوقاً ؛ وإنما كان تشيخصاً منّا للواقع ومحاولةً أمينةً وصادقة لطرح الحلول الواقعية والقانونية ، سواءً من جانب المجتمع أو من جانب الجهات الرسمية المختصة ، والتنظير كما هو معروف عكس الواقعية وأقرب للمثالية التي ينشدها المنظّر كما يتخيلها ، وهي حالة غير ممكنة الحدوث ، كصياغة نظرية قد تكون قابلة للتطبيق أو لا تكون ؛ لأسباب واقعية أو تشريعية أو إدارية أو نحو ذلك من العوامل التي تجعل منها صعبة التحقق ، وهذا ما نحاول جادّين أن نبتعد عنه عند كتابتنا أو طرح أي موضوع وطني ، وهذا ما يدركه كثير من المنصفين ، وأفادونا به شاكرين ومقدَّرين ، وليس من ذنب يمكن أن يقع على الكاتب عندما لا يقرأ المتلقي الفكرة كاملة أو يحاول اجتزاء ما يناسبه ، ولن أبحث أو أشكّك في النوايا ، هذا جانب ، ومن جانب آخر ، فإنّ الكاتب لا يملك سلطة الإلزام بما يعرضه .
وأخيراً فإنّ الكاتب الأمين والموضوعي يوازن في كتاباته ويراعي مصالح الوطن ومجتمعه ، وليس من ضمن هذه المصالح تهييج وإثارة وتجييش الرأي العام ، بل يكون النقد – إن كان ثمة نقد ، بل ويهمّه النقد الهادف المثمر – بالحوار الهادف البناء وبالكلمة الطيبة والقول الحسن ، لقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) .
كان لا بدّ من هذه المقدمة للردّ على بعض الإخوة الذين أطلقوا أحكامًا هي بعيدة عن الواقع .

نكمل ما بدأناه في الجزء الأول من هذا المقال ، ليكون الحديث هذه المرة عن مجلس عمان الذي يتكون من غرفتين ، الدولة والشورى ، والأولى ، كما معلوم يتم تعيين أعضائها من قبل سلطان البلاد ، والثانية ، يكون بانتخاب الأعضاء من قبل هيئة
الناخبين ، وهي ممارسة بدأت مع صدور النظام الأساسي للدولة السابق عام ١٩٩٦م ، وتأكدت بصدور النظام الأساسي للدولة الحالي عام ٢٠٢٠م .
ويوجد في كل دولة ثلاث سلطات ؛ تنفيذية وتشريعية وقضائية :
– فالسلطة التنفيذية معنيّة بتنفيذ القوانين ورعاية مصالح المواطنين من خلال إنشاء وتسيير المرافق العامة المختلفة ، وهي معنية أيضآ بحفظ الأمن وترسيخ مبدأ سيادة القانون بمفهومه الواسع والشامل .
– في حين يكون جُلّ اختصاصات السلطة التشريعية سنّ القوانين ومتابعة أداء الحكومة ، من خلال الوسائل القانونية المتاحة .
– أما السلطة القضائية فمهمتها مهمة سامية جليلة وهي الفصل في الخصومات والمنازعات التي تنشأ بين الأفراد بعضهم بعضاً ، أو بين الأفراد من جانب والدولة من جانب أخر ، وإذا كان النظام الأساسي للدولة العماني لم يعلن صراحة التقسيم الثلاثي المشار إليه ، فهذا لا يعني عدم وجوده واقعاً ، لذا فإننا سنعتبر مجلس عمان ولو حتى من قبيل المجاز السلطة التشريعية في البلاد .
ومما يتوجب التأكيد عليه هنا بأنّ هذه السلطات الثلاث يحكمها وهي تمارس اختصاصاتها ، مبدأٌ هام وأصيل مترسخ في كافة الدول الديمقراطية ، وهو مبدأ الفصل بين السلطات الذي يعني ببساطة ، عدم تدخّل أي سلطة في أعمال السلطة الأخرى ، وهذا لا ينفي ولا يتعارض مع وجود قدْر من التعاون والتأثير المتبادل وخاصة بين السلطتَين التشريعية والتنفيذية ، بالقدر الذي تنص عليه الدساتير والقوانين المكملة لها ، بما يضمن عدم هيمنة إحداها على الأخرى .
ونظام المجلسَين الذي يشكل البرلمان ، مأخوذ به في كثير من دول العالم لما يتمتع به من مزايا واضحة ، لعلّ أبرزها عدم التسرع في التشريع ، وتلافي الوقوع في الخطأ ، وتحقيق عنصر التوازن ، وتطعيم أحد المجلسين بكفاءات علمية ومهنية ذات خبرات متراكمة تعزز من جودة العمل وإتقانه .

ومن الدول التي تأخذ بنظام المجلسيَن ؛ أمريكا ، متمثلة في مجلس النواب ، ومجلس الشيوخ . وأيضاً المملكة المتحدة متمثلة في مجلس اللوردات ، ومجلس العموم ، وفرنسا (الجمعية الوطنية ، ومجلس الشيوخ) ، وإيطاليا (مجلس النواب ، ومجلس الشيوخ) ، وألمانيا (البوندستاغ ، والبوندسرات ) واليابان (مجلس النواب ، مجلس الشيوخ) والهند (مجلس الولايات ، ومجلس النواب) ، وباكستان (مجلس الشيوخ ، والمجلس الوطني) وغيرها من دول العالم الأخرى . أما في العالم العربي فتأخذ بنظام المجلسَين ، مصر (مجلس النواب ، مجلس الشيوخ) ، والأردن (مجلس الأعيان ، ومجلس النواب) ، والمغرب (مجلس المستشارين ، ومجلس النواب) ، والجزائر (المجلس الشعبي ، ومجلس الأمة) ، والبحرين ( مجلس النواب ، مجلس الشورى) .

يقوم نظام المجلسَين على عدة دعائم ، منها ؛ المغايرة في تشكيلهما ، كأن يكون أحدهما بالانتخاب ، والأخر بالتعيين ، أو كلاهما بالانتخاب مع اختلاف طريقة الانتخاب لكل منهما ، والدعامة الثانية المغايرة في الاختصاصات بحيث يكون ألمجلس الأوسع تمثيلاً للشعب أكثر اختصاصات ، وخاصة في مجال الرقابة البرلمانية أي متابعة أداء الحكومة .

وفيما يتعلق باحتمالية الاختلاف في نظام المجلسَين فهي مسألة واردة وكثيرة الحدوث في كافة الأنظمة ، ولا غضاضة في ذلك ، فالاختلاف لا يجب أن يكون مخيفاً أو مزعجاً ، لا لسلطات الدولة ولا للأفراد ، باعتباره ظاهرة صحية طبيعية بين بني البشر ، قال تعالى : ” ولو شاءَ ربُّك لجعلَ الناسَ أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين إلا مَن رحم ربك ولذلك خلقهم ” فالاختلاف بينهم واقع في كافة ميادين الحياة ، ولذا فإنّ دساتير العالم حريصة أشد الحرص على حلّ وقطع دابر الاختلاف بين الغرفتين فيما يتعلق بمشروعات القوانين ، بعدة طرق :
* فإما أن ينص الدستور على قراءة ثانية بينهما للمشروع المختلف عليه .
* أو ينص على تغليب وترجيح رأي أحدهما ، وغالباً ما يكون رأي المجلس المنتخب هو الأرجح .
* أو عقد جلسة مشتركة بينهما والتصويت على ذلك المشروع وبالتالي يحسم الخلاف .

وبذا ، يمكن القول ، إنّ سلطنة عمان لم تنفرد بتطبيق نظام المجلسَين في تكوين البرلمان ، فهو نظام عريق نشأ في المملكة المتحدة منذ قرون ، وهو اليوم سائد في كثير من دول العالم لما يتمتع به من مزايا عديدة ، ويقوم على مبررات وجيهة ومنطقية في العمل البرلماني ، وهناك شريحة كبيرة من المجتمع العماني تراه أحد ثمرات النهضة المتجددة ولا بد من المحافظة عليها .

والإنصاف يقتضي القول ، إنّ المطلب المجتمعي هو تطوير الممارسة الشورية بصورة أوسع ، من خلال تعزيز أدوات المتابعة للأداء الحكومي وتخفيف الضوابط المفروضة في قانون مجلس عمان بشأن استخدام وسيلتي طلب المناقشة والاستجواب ، ومنح اقتراح سحب الثقة من وزراء الخدمات عندما توجد الأسباب الحقيقية الموجبة لذلك .
غير أنه لا يمكن أن يحل مجلس عمان نفسه مكان الحكومة ومزاولة اختصاصاتها . وإلا نكون قد هدمنا مبدأ الفصل بين السلطات من أساسه .
وهذا الأمر ، كما هو معلوم ، غير متاح في أي دولة من دول العالم ، لا في الدول التي تأخذ بنظام الحكم البرلماني ، ولا التي تأخذ بنظام الحكم الرئاسي ، ولا التي تأخذ ببعض خصائص النظام البرلماني وبعض خصائص النظام الرئاسي .

ولكي تتعزز الممارسة بشكل فاعل ، يجب أن تتكثف المشاركة في الانتخابات القادمة ، وعلى كل ناخب ممارسة حقه وواجبه الانتخابي ، واختيار الكفاءات المؤهلة لعضوية مجلس الشورى ، والتوقف عن بث دعوات عدم المشاركة سواءً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، ومن كانت لديه قناعات مختلفة فلا أحد يمكن أن يسلبه قناعاته ، وعليه أن يحتفظ بها من دون تأثير على قناعات الأخرين وبث حالة السلبية ، وهي حالة مذمومة وغير مرغوب فيها في المجتمعات الناهضة التواقة للتطور ومستقبل أفضل . وكثيراً ما شدّدت وأكّدت على هذه النقطة في مقالات سابقة لذات الموضوع والسياق .

وبمناسبة هذا المقال لا يمكنني مغادرته قبل أن أبدي رأياً شخصياً على بعض الممارسات التي مارسها مجلس الدولة ، وتفسيره للمادتين ٤٩، ٥٠ من قانون مجلس عمان ، بشأن الاختلاف مع مجلس الشورى على مشروعات القوانين ، حيث نحى في رفع بعض هذه المشروعات بحالتها على هدي من القول بأنّ الجلسة المشتركة جوازية يدعو إليها رئيس مجلس الدولة إن شاء ، ويتركها إن لم يشأ . ولعمري إن هذا التفسير خاطيء خطأً صريحًا ، ذلك أن تفسير النصوص ذات الطبيعة الدستورية لا يحمل على وضوحها وظاهرها – في بعض الأحيان – إذا كانت تتعارض مع العقل والمنطق وما استقر عليه العمل في التشريعات المقارنة ، ولذلك يجب البحث في مثل هذه الأحوال عن الإرادة المفترضة للمشرّع ، وفي الأصل التاريخي للنص محل التفسير . وتأييداً لما نقول ، فإنّ التفسير المزعوم يؤدي إلى نتيجتين غير مرضيتين : الأولى ، بقاء حالة الاختلاف على ما هي عليه ، وهذا ما لا يمكن التسليم به ، والثانية ، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتحديداً إلى عام ١٩٨١م وجعْل مجلس عمان مجلساً استشارياً شبيهاً بالمجلس الاستشاري للدولة ، وهكذا تتكشف خطورة وعوار ممارسة مجلس الدولة تلك ، ونأمل أن يسقطها التاريخ من مدونته .

ومن هنا أصبح تدخل المشرّع من خلال قانون مجلس عمان ضرورة حتمية للنص على إلزامية الجلسة المشتركة في حالة الاختلاف بين الغرفتين ، وعلى كيفية تشكيل اللجنة المشتركة من حيث انتخاب أعضاء كل مجلس أم تعيينهم من قبل رئيس كل مجلس ، هذا بالإضافة إلى الإجراءات الواجب اتباعها في الجلسة المشتركة من حيث مناقشة أوجه الاختلاف والتصويت ؛ حتى لا تُترَك للاجتهادات والتأويلات المتناقضة بين المجلسَين .

لقد عملت الجهات المختصة في الفترة الأخيرة على تسهيل عملية الانتخابات ؛ بإدخال نظام التصويت الإلكتروني وهو تطور مذهل سبقْنا به كثيراً من دول العالم ، ويبقى على تلك الجهات المراقبة الصارمة والحد من تفشّي المال السياسي لضمان انتخابات نزيهة وشفافة ، فقد تلاحظ بحقّ تنامي هذه الظاهرة من قبل بعض المرشحين واعتادت أسماعنا سماع صرف عشرات الألاف إن لم يكن مئات الآلاف على الحملات الانتخابية ، واستغلال حاجة المواطنين وعوزهم . ولذا فإن بقاء الحال على ما هو عليه سيجعل من انتخابات المجالس البلدية ومجلس الشورى فرصة للإنتهازيين وأصحاب الثروة سرقة أصوات انتخابية ، وبالتالي اختلال المعايير والفرص المتساوية والعدالة بين المترشحين ، وهذا بالقطع ما لا تقبله الدولة بجميع مؤسساتها ويستهجنه المجتمع الواعي المدرك لأهمية التجربة .

لنكن جميعا على قدر وقيمة المسؤولية الملقاة على عاتقنا ، ولنصنع مجلساً للشورى يلبي طموحاتنا وآمالنا وتطلعات ولي أمرنا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه ، وسدّد إلى الخير خطاه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى