المقالات

فنّ القيادة

بقلم : جوخة الشماخية

كلمة (فنّ) من معانيها الجمال والإبداع والتفرّد في جانب من جوانب الحياة، هناك أشياء جميلة كثيرة قد نصفها بالفن، فينتج لدينا تركيب إضافيّ يشع جمالا، كأن نقول: فن الرسم، وفن الإلقاء، وفن الخطابة، وفن النحت، وفن التمثيل، وفن التعامل، وغيرها. من المجالات المهمة التي قد تحمل صفة الفن هي القيادة، فتمتزج معا في كلمتين هما : ” فنّ القيادة “.
حين ننظر إلى القيادة من زاوية واسعة، سنجدها تتسع، فلا تشمل القيادة الإدراية أو المؤسساتية فحسب، وإنما القيادة تبدأ من قيادتك لذاتك وبيتك وفريقك وللآخرين من أفراد المجتمع، الأفراد الذين تقودهم هم العنصر الأهم في عملية القيادة، سواء اتسعت الدائرة أم ضاقت، وأوسع اتساع لها هو قيادة الشعوب، ونسبة نجاحك كقائد مرتبط بحكمهم.
ما يعنيني في هذا المقام هو القيادة المؤسساتية، التي حين نصفها بالفن، فإنّ ذلك يعطينا انطباعا بأنها قيادة متميزة، يكاد ينصهر فيها القائد الرئيس مع مرؤوسيه، إذ إنّ تميّزها يقوم على العلاقة الاجتماعية بينهم، فتجدهم يعملون كخلية نحل محددة الأدوار، كل في مجاله قائد، وحين تنضج هذه الخلية ستنتج شهدا خالصا، من يتذوقه سيستطيب مذاقه. إن مملكة النحل مملكة صغيرة في حجمها، لكنها كبيرة وعظيمة في إنتاجها ودقتها وروعتها، القائد فيها هي ملكة النحل، وبرغم أنها الملكة لكن عملها قد يكون أقل من مرؤوسيها، كالشغالات مثلا التي تقوم بمعظم الأعمال التي تحتاجها الملكة والمملكة، وهناك تضحيات خفية يقدمها بعض أفراد المملكة أيضا، كذكور النحل التي تموت فور تلقيحها للنحلة العذراء (الملكة)، والملكة بعد هذا التلقيح تضحي أيضا، إذ لا يحق لها الزواج مرة ثانية، فتستمر في وضع البيض المخصّب حتى تموت. هكذا أيضا المؤسسة الناجحة، قد يقدّم الموظفون فيها تضحيات، والمهم أن تكون هذه التضحيات يستحقها الرئيس، فدائما نجاح المؤسسة مرتبط باسمه. مع أنه في أحيان كثيرة قد لا يكون هو القائد الحقيقي، فمتى ما كانت العلاقة إنسانية كان حجم تضحيات الموظفين أكبر، فتستطيع أن تصبح قائدا ناجحا ولكن بمساعدة الآخرين، الذين يساعدونك على تحقيق أهداف المؤسسة، وبالتالي تساعدهم أنت على تحقيق أهدافهم الوظيفية، أما إذ انعدمت تلك العلاقة، سيقلّ عدد المخلصين والجادين في عملهم، سيحضر البعض إلى المؤسسة وكأنه مرغم على المجيء؛ حيث لا توجد دافعية، ولا حب، ولا شغف للعمل، ربما يكون من أسباب حضورهم حاجتهم للراتب الشهري، أو ليقضوا وقتا جميلا مع زملائهم الموظفين.
قد نتساءل: هل القائد يُولد قائدا ؟ وهذا التساؤل يأخذنا إلى تساؤلات أخرى، مثل: هل جميع القادة الناجحين خلقوا قادة ؟ وهل القيادة متوارثة ؟ فيكون ابن القائد بالضرورة قائدا ؟ في مختلف أمور حياتنا ليست هناك قواعد ثابتة للأشياء، فقد يشذ شيئ عن القاعدة ؟ فليس بالضرورة أن يكون ابن القائد قائدا، فمعظم القادة العظماء صنعوا أنفسهم بأنفسهم. هناك مثل أفريقي يقول: ” إنك لا تولد قائدا، وإنما تصبح قائدا ” فالقيادة في بعض جوانبها فطرية، بينما جوانب أخرى قد تكون مكتسبة، ولا تنجح القيادة إلا إذا تكامل الجانبان، فأحدهما منفردا قد لا يكون كافيا لخلق قيادة ناجحة.فإن وهب الله سمات القيادة لشخص ما، وتهيأت له الظروف لممارستها، علية أن يقوّي تلك السمات من خلال التدريب، وتنمية الذات، واكتساب الخبرات الجديدة، وفقا لما تحتاجه المؤسسة.
قرأت مرة عبارة في موضوع من موضوعات القيادة تقول : ” إذا اردت أن تصبح لاعب جولف ماهرا، فإن الموهبة الطبيعية لن توصلك إلاّ إلى منتصف الطريق، وفي تلك المرحلة يتعين عليك أن تتعلم فعل تسعة أو عشرة أشياء، ربما تبدو استثنائية وغريبة لأول وهلة. يجب أن تفكّ مهارتك الفطرية، وأن تضع القطع معا من جديد في ترتيب مبتكر، وبمجرد أن تصبح تلك المهارات الجديدة عادات لديك دون أن تشعر، عندها تصبح عند الخطوة الأخيرة نحو الوصول إلى قمة التميّز”. ذلك يعني بأن القائد لكي يحقق نجاحا أكبر، لا بد أن يضيف إلى مهاراته الفطرية مهارات جديدة ومبتكرة.
تتعدد أنواع القيادة كما كتبت عنها أدبيات التربية وتنمية الموارد البشرية، ولست هنا بهدف تعداد تلك الأنواع، وإنما الهدف هو الحديث عن القيادة المنشودة التي ينشدها الموظف في بيئة عمله، ليصبح موظفا فاعلا ومنتجا ويشعر بالرضا الوظيفي الذي يفتقده الكثير من الناس في مؤسساتهم، هذا النوع من القيادة أمره في يد القائد، فيا تُرى ما الخصائص التي يبحث عنها الموظف في قائده ؟ والتي تجعلنا نصف قيادته بأنها ( فنّ )؟
إن القيادة الناجحة أيها القائد قيادة إنسانية في المقام الأول، تتعامل مع الموظف على أنه بشر في جميع حالاته، شأنه شان القائد، كلاهما ليس معصوما عن الخطأ، وهنا تبرز شخصية القائد الناجح، كيف يتعامل مع أخطاء موظفيه، كيف يعالجها، ويكون قادرا على تحويل سلبياتهم إلى إيجابيات. القائد الناجح هو الذي يعرف قدرات موظفيه، ويفقه مهاراتهم وذكاءاتهم التي يتفرّدون بها، فيتعامل معهم وفقا لما يمتلكونه، قد يجد نفسه قادرا على الاعتماد على أحدهم في أمر ما يخص المؤسسة، ويفوّض مهمة لآخر، وهو بذلك يبث الثقة وحسن الظن فيهم، ويتابع مدى قدرتهم على تحمّل المسؤولية التي أناطها إليهم. أيها القائد اعلم أن بعض موظفيك قد يكون لديهم القدرة على تبني أفكار جديدة، عليك أن تشاركهم في دراستها، لا أن تقوم بتسفيهها، فإن رفضتها ارفضها بلباقة، وإن رأيتها بادرة طيبة تستحق أن ترى النور، خذ بأيديهم وقف بجانبهم، وحين تنجح فكرتهم باركها، لا تحتفظ بالنجاح لنفسك، وإنما اذكر اسماءهم، أو على الأقل ضم اسمهم إلى اسمك؛ ليكونوا شركاءك في النجاح.
من سمات القيادة الناجحة، أن تستمع إلى أفكار مرؤوسيك، تحاورهم، وتناقشهم، وتفكّر معهم بصوت مسموع، ذلك سيشعرهم بقيمتهم، ودورهم في صنع القرار، لا تكن دكتاتوريا، فبعضهم قد تكون ثقافته وخبراته واهتماماته فيما يخص موضوع النقاش تفوق خبرتك، وبالتالي سيفيدونك بمقترحاتهم ووجهات نظرهم، وأمثال هؤلاء اعتبرهم مكسبا لمؤسستك، فلا تفرّط فيهم.
لا تحتجب عن مرؤوسيك، فأنت لم تنصّب قائدا لتقود الناس وأنت جالس في مكتبك، أو تقودهم من فوق برجك العاجي، فمهما بلغت مكانتك الاجتماعية، أنت أولا تحمل مسؤولية أمام الله قبل أن تكون أمام بشر، تنقّل بين مكاتبهم، تفقد أحوالهم، وكن سمحا مبتسما في وجوههم، اسمعهم بعض كلمات الثناء والتشجيع، فذلك سيُعلي من مكانتك في قلوبهم.
من أكثر الأمور التي قد تسيء إلى قيادتك هي المحاباة، حيث أنها قد توغر قلب الموظفين، وتتسبب في خلق العداوات بينهم، لا تحكم حكما غيابيا إلا بعد أن تنصت إلى كافة الأطراف، وإن حكمت فكن معتدلا، فلا تميل كل الميل.
احتفل بنجاحهم، وشاركهم مناسباتهم الاجتماعية، ذلك سيخلق نوعا من القرب النفسي بينك وبينهم، وستكسب قلوبهم، ستجدهم يحترقون من أجل المؤسسة، ولن يرفضوا لك طلبا طالما أنهم قادرون عليه.
وختاما، إن العامل الرئيس لنجاح أي قيادة مهما كانت، هو القدرة على امتلاك قوة التأثير، وليس امتلاك قوة السلطة والنفوذ، فالسلطة موجودة ومدوّنة يستطيع أي شخص أن ينفذها بحذافيرها، أما قوة التأثير فلا يمتلكها إلا القائد الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى