المقالات

من جامعة القرويين إلى جامعة ييل: سيرة وقفٍ أشرق عالميًا وخبا عربيًا

بقلم : هلال بن سعيد بن حمد اليحيائي

رئيس مجلس المؤسسين لمركز بهلا للعلوم والابتكار

تُعدّ جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية—المدوّنة رسميًا في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأقدم جامعة في العالم—واحدة من أعظم الشواهد على ريادة الحضارة الإسلامية في بناء مؤسسات العلم. فقد أسّستها  فاطمة بنت محمد الفهرية ، حتى قال عنها ابن خلدونفكأنما نبهت بذلك عزائم الملوك من بعدهاوكأن إشعالها لشعلة الوقف كان بداية لنهضة ممتدة .

والوقفُ ان كان في أصله سبقًا إسلاميًا أصيلًا بزغ في الشرق وأضاء حضارةً كاملة، فإن الغرب، ومع مرور القرون، تطور نموذج الوقف لديهم ليصبح القوة المالية الناعمة التي صنعت جامعات ترتقي إلى مصاف الدول؛بينما بقيت الأوقاف في العالم العربي، رغم ريادتها التاريخية، أسيرة غياب التنظيم والحوكمة والدعم المؤسسي، حتى فاتتنا فرصة أن نجعل من الوقف قوة معرفية واقتصادية كما صنعه غيرنا .

فمن ينظر إلى أكبر خمس جامعات أمريكية تتربع الصدارة في التقييم العالمي للمؤسسات التعليمية، ولها إسهاماتها العلمية والفكرية ، والسبق في ميادين الابتكار والريادة، يجد أنها هي نفسها تملك أكبر الاستثمارات الوقفية الجامعية عالميًا: جامعة هارفارد بوقف يقدّر قيمته بأكثر من خمسين مليار دولار، وجامعة ييل بوقف في حدود 41 مليار دولار، وجامعة ستانفورد بـ 36 مليار دولار، وجامعة برينستون بـ 35 مليار دولار، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في حدود 23 مليار دولار ، تساهم إيرادات الأوقاف في حدود 40 % من  ميزانية تلك الجامعات وتحقق عائدات  في حدود 10 -12% سنويا .

ولكن يبقى السؤال: ما العوامل التي أدت إلى ظهور تلك الاستثمارات الوقفية الكبرى،  وإن برّرنا ذلك بأن أوقاف هذه الجامعات أكملت 300 عام منذ تأسيسها، فنحن في المقابل لدينا أوقافٌ أكملت 1400 عام، إلا أنها بقيت كما هي إن لم تكن اندثرت ، ومن خلال البحث والتقصي عن العوامل التي ساعدت على ظهور هذه الأوقاف العملاقة  ،هناك جملة من الأسباب تقف خلف نجاح الاستثمارات الوقفية في الغرب بشكل عام، يأتي في المقام الأول الحوافز الضريبية المشجعة للأفراد والشركات؛ حيث إن التشريعات، على سبيل المثال، تتيح خصمًا ضريبيًا يبدأ من 33% في كندا، و60% في أمريكا، إلى 250% في سنغافورة. وعلى سبيل المثال: المتبرع السنغافوري، في حال قدّم مبلغ 10 ألف دولار لمؤسسة تعليمية، يتم احتسابه بمبلغ قدره 25 ألف دولار في جهاز الضرائب . كما يُسمح للشركات بخصم 10% من أرباحها للمؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة. و هناك أيضًا الإعفاء من ضريبة الميراث في حدود 40%، وبرامج الحرية الضريبية للحسابات الاستثمارية التي تتيح للفرد استثمار أمواله في صناديق الجامعات والحصول على العوائد، وبعد وفاته تذهب كتبرع للجامعة، أو بالعكس: لا يحصل هو على الفوائد وإنما بعد وفاته يرجع الأصل إلى الورثة  . لذلك أتاحت هذه الحوافز الضريبية في تلك الدول أن حفّزت الأفراد والشركات على التبرع، لأنه أقل كلفة من دفع الضريبة .

ويأتي العامل الثاني في وجود هذه الأوقاف الضخمة وهو الثقافة المجتمعية لدى الخريجين بأهمية التبرع للمؤسسة التعليمية التي تخرجوا منها؛ ولذلك تصل في أمريكا نسبة مساهمة الخريجين في التبرعات إلى حدود 35%، وهو الأعلى عالميًا ، و هناك العامل الثالث و هو الإعفاء الضريبي لهذه المؤسسات و أوقافها، مع وجود حوكمة متقنة و شفافية واضحة و منهجية استثمارية بالتعاون مع كبار مدراء الأصول في العالم، وخطط طويلة المدى لا تُدار وكأنها مؤسسات تطوعية، ولكن ككيان استثماري بحت أسوة بالشركات .  وهنا نود ذكر المدير الوقفي الراحل لجامعة ييل، الدكتور ديفيد سوينسِن، الذي توفّي في عام 2021 بعد أن قضى 36 سنة من عمره في إدارة وقف الجامعة، الذي تولّى إدارته في عام 1985 بمبلغ كان في حدود مليار دولار، واستطاع من خلال إخلاصه وتفانيه  أن يضاعف المليار إلى 40 ضعفًا تقريبًا، من خلال استراتيجية قائمة على التنوع العميق في الاستثمارات .

ولذلك قد لا نستغرب أن وقف جامعة ييل   دخل مبكرا في شراكات طويلة المدى مع اعرق  وانجح الصناديق الاستثمارية؛ فعلى سبيل المثال، يُعدّ صندوق جريلوكوشركاه من أعرق صناديق رأس المال الجريء وقد تأسس في عام 1965 في وادي السليكون بولاية كاليفورنيا، وقبل ظهور الإنترنت ،  وغيرها من الصناديق التي كان لها دورٌ في تأسيس كبريات شركات التكنولوجيا العالمية، مثل: أبل، وجوجل، وميتا ، وأوراكل، ويوتيوب، وإنفيديا، والكثير من التطبيقات المشهورة التي حققت انفجارات في حجمها وتأثيرها وقوة أسهمها وقد كان لهذه النجاحاتدورٌ كبير في تضخّم أوقاف جامعة ييل وغيرها،   و يُعدّ ديفيد سوينسِن أعظم مدير للوقف الجامعي في التاريخ الحديث .

إننا نأمل، ومع وجود رؤية عُمان 2040 والتوجّه نحو الابتكار والريادة وتقليل الدعم الحكومي، بأن  تنال هذه المؤسسات التعليمية والصناديق الوقفية الاستقلال المالي، وان يتم التعامل معها كصناديق استثمارية بحته وليس صناديق تطوعية، وتُقدَّم لها حزمٌ من الحوافز الضريبية تتيح للأفراد والشركات تقديم التبرعات لهذه الصناديق ، وتشجيع الطلاب الخريجين على التبرع لجامعتهم، مع تقديم حوافز أخرى كتخصيص أراضٍ استثمارية في مواقع قابلة للاستثمار، وتقديم مساهمة مالية حكومية تكون كبداية انطلاقة فعلية للنهوض بالاستثمار الوقفي الجامعي،  والتعاون مع مديري الأصول المحترفين ، والاستثمار في الشركات الناشئة التي تمتلك عقولًا مبتكرة؛ وإن كانت استثماراتها صغيرة، إلا أنها مع المدى الطويل ستحقق عوائد مضاعفة  .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى