المقالات

صرخة من أرض النجد.. سلة الغذاء الأولى

بقلم : المختار الهنائي

في أقصى الجنوب العُماني حيث تمتد صحراء ظفار بهدوء يشبه التأمل، تنهض مزارع النجد كأنها معجزة خضراء في قلب القفر، هناك “سالم” مزارع يزرع البصل ومنتجات أخرى كما يزرع الأمل، ينهض قبل شروق الشمس ليسقي أرضه ويتفقد أوراق محصوله وكأنها أبناؤه، على مدار أشهر هو وفريقه من المزارعين لم يدخروا جهدًا ليخرج الزرع في أبهى صورة، نقي وله رائحة تملأ الساحة وطعم لا يُشبهه مستورد.

لكن فجأة تحولت الفرحة إلى غصة، في صباح مشمس من أبريل وقف “سالم” على مدخل مزرعته يستشرف المستقبل القريب، وكأنه يرى شاحناته المحملة بالبصل تنتظر منذ أيام بلا وجهة، فالسوق المحلي مكتظ والأسواق الخارجية مغلقة، والمستورد الأجنبي يملأ الرفوف رخيصًا وسهل الوصول، بدأ صوت البصل يخفت ليس لأنه لا يستحق، بل لأن أحدًا لم يسمعه.

سالم ليس وحده، خلفه أكثر من ثلاثين مزرعة، مئات الأيدي العاملة وآلاف الأطنان من المحاصيل المهددة، ليس هناك خلل في الأرض ولا في العرق المبذول، بل في التخطيط الغائب فلا مركز تسويق ولا حماية من الإغراق ولا خطة لتصريف الوفرة.. فقط وعود وتغريدات وأمنيات معلّقة.

كيف سيستمر سالم؟ كيف سيزرع من جديد إن كان لا يجد من يشتري؟ كيف تبقى النجد خضراء إن تُركت وحدها في وجه السوق المفتوح؟ أين السياسات التي تتحدث عن الأمن الغذائي؟

في موسم يفترض أن يكون عيدًا للمزارع والمستهلك والاقتصاد الوطني، يتحول المشهد إلى مأساة صامتة، 34 مزرعة تواجه اليوم خسائر فادحة، ليس لأنها قصرت بل لأننا قصرنا ولم نجهز السوق المحلي لاستقبال هذا الفيض من الخير، ولم نحشد قدراتنا لحماية المنتج العُماني من موجات الإغراق الخارجي، ولم نضمن حتى نوافذ لتصريفه أو تخزينه.

هذه ليست مجرد “أزمة بصل” هي أزمة رؤية شاملة للقطاع الزراعي في السلطنة، فمزارع النجد ليست مجرد رقعة زراعية بل هي اليوم سلة الغذاء الأولى في البلاد، وخط الدفاع الأساسي في معركة الأمن الغذائي، والمزارع العماني لا يطلب الكثير فقط يريد أن يشعر أنه ليس وحده في الميدان، وأن جهده لا يُترك لمصير الخسارة والإفلاس.

ما يحدث اليوم يتطلب تحركًا عاجلًا وجادًا، لا يكتفي بالمواساة بل يقدم حلولًا عملية ومستدامة، ومنها إنشاء مركز تسويقي دائم في النجد، مركز يُعنى بجمع وفرز وتغليف وتسويق المحاصيل، ويكون نقطة وصل بين المزارع والأسواق المحلية والخارجية، والحاجة ملحة اليوم لدعم حكومي مباشر للمنتجات الموسمية، كالبصل والبطاطس والطماطم وغيرها عبر شراء مباشر أو دعم تسويقي يحفظ استقرار الأسعار.

كما من الأجدى تفعيل قوانين الحماية الوطنية من الإغراق، لضمان ألا يتعرض المنتج المحلي لمنافسة غير عادلة من المنتجات المستوردة في أوقات الذروة، وتقنين الاستيراد في المواسم بضبط الكميات المستوردة وفق احتياج السوق المحلي، كما لابد من تشجيع الاستهلاك المحلي من خلال حملات إعلامية وتوعوية تشجع المواطنين والمطاعم والمؤسسات على تفضيل المنتج الوطني.

حين نطالب شبابنا بالعودة إلى الزراعة ونحتفل بإنجازات الأمن الغذائي، لا بد أن تكون هذه الدعوات مصحوبة بسياسات تحمي وتدعم لا بشعارات موسمية فالمزارع العُماني ليس مشروعًا مؤقتًا ولا حملة إعلانية، بل هو شريك حقيقي في بناء هذا الوطن ويستحق منا خططًا تليق بعطائه وتشريعات تحصن محاصيله من الخسارة.

إننا لا نطالب بتفضيل غير منطقي، بل نطالب بعدالة في السوق وإنصاف لمن يزرع في أرضه من أجلنا جميعًا، فهل نسمع صوت النجد اليوم قبل أن يخفت؟ أم نبقي المزارع العماني وحيدًا في معركة الغذاء ونكتفي بالتفرج على خسائره؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى