نبحث عن البعيد …وننسى الذهب تحت اقدامنا ؟

بقلم : هلال بن سعيد اليحيائي، رئيس مجلس المؤسسين بمركز بهلا الثقافي للعلوم والابتكار
في نهاية القرن التاسع عشر، وقف القسّ راسل كونويلفي أحد الأيام بحديقة الكنيسة يفكّر في كيفية الحصولعلى أموال لإنشاء جامعة لتعليم الفقراء ، وبينما هويتأمّل المكان وما حوله من مبانٍ قريبة، كان البستاني يقومبعمله اليومي في قصّ الحشائش. فقال القس للبستاني: «إني أرى العشب في المبنى المجاور أكثر اخضرارًا منالعشب هنا»، فردّ البستاني بحكمة غيّرت فكر راسلكونويل إلى الأبد، وقال له: «أنت تنظر إلى البعيد ولاتلتفت إلى ما حولك، فالعشب هنا أكثر اخضرارًا ممايتصوّره عقلك .
من هنا، من هذه الكلمات، انبثقت فكرة «فدادين الألماس»التي أصبحت خطبةً ألقاها القس أكثر من 6000 مرة فيالكثير من المدن الأمريكية، وتمّت طباعة كتب حولهاوبيعها. وقد جنى من هذه القصة — التي لا تزال متداولةحتى اليوم — أكثر من ثلاثة ملايين دولار وبفضل هذاالعائد، استطاع القس كونويل أن يؤسّس جامعة تمبل فينهاية القرن التاسع عشر، وهي اليوم تُصنَّف ضمن أفضل90 جامعة أمريكية . وفي إحدى حكايات راسل كونويل،يحكي عن فلاح ترك مزرعته بعدما سمع عن وجود الألماسفي الغرب؛ فقرّر المزارع بيع مزرعته والهجرة للبحث عنالثروة، لكنه في نهاية المطاف فقد كل أمواله ومات معدمًافقيرًا محطّمًا. وفي المقابل، فإن الرجل الذي اشترى أرضالمزارع قام باستصلاحها، واكتشف فيها منجمًا للألماس،وأصبح أغنى رجل في الغرب الأمريكي .
ما زالت حكاية «فدادين الألماس» تتكرّر في واقعناالمعاصر؛ فالفرص في محيطنا كثيرة، غير أنّ كثيرًا منالشباب يبحثون عنها بعيدًا: إمّا بالهجرة إلى الخارج، أوبانتظار «قطار الأحلام» ليحقق لهم حلمهم وشغفهم،ويمنحهم وظيفة تتوافق مع شهاداتهم ومكانتهم وبرواتبكبيرة تلبي طموحاتهم الآنية بسرعة. فالفرص في الحياةمتوفرة ومتاحة لمن يستطيع أن يحفر في عقله قبل أنيحفر بيده. فأغلب روّاد الأعمال هم أشخاص بحثوا فيمحيطهم عن احتياجات الناس الفعلية، وحوّلوها إلىحلول واقعية، ثم إلى مشاريع تجارية ناجحة أنهت أزماتيومية يعيشها الناس.
إنّ الشباب العربي — الذين يشكّلون أكثر من 60% منالتركيبة السكانية — يُعدّون ثروةً للعالم العربي. وتشيرالأبحاث الصادرة عن «ماكينزي» إلى أنّه يمكن خلق أكثرمن 100 مليون وظيفة في العالم العربي خلال السنواتالقادمة، غير أنّ تحقيق هذا الرقم يحتاج إلى مهاراتعملية تُكتسب بعيدًا عن الشهادة الجامعية التقليدية. فالألماس — حسب رمزية القصة القديمة — يكمن اليومفي المهارات الحياتية التي يتطلّبها سوق العمل. فمثلاً،في عالم الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي،أصبحت مهارات صناعة المحتوى، والتسويق الرقمي،والإعلانات، والتصميم، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والزراعةالذكية، والروبوتات، والتطبيقات الإلكترونية، والطاقةالمتجددة — جميعها فرصًا ذات عائد كبير .
وعلى سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى أنّ سوقصناعة المحتوى عالميًا بلغ نحو 240 مليار دولار في عام2024م، ويعمل فيه ما يقارب 207 ملايين شخص؛ ويتراوحمتوسط الدخل السنوي لصُنّاع المحتوى بين 12 ألف ريالسنويًا وصولًا إلى 190 ألف ريال سنويًا للفرد الواحد،وتشكل النساء أكثر من 67% من العاملين في هذا المجالعالميًا ، إنّ الكثير من الشركات الناجحة اليوم لم تكن أفكارًامبتكرة أو مقترحات وُلدت في مختبرات التخطيط، بلكانت حلولًا لأزمات شخصية أو مجتمعية. فقد نظر روّادالأعمال حولهم وتأمّلوا في احتياجات مجتمعهم، ثمصنعوا منها منتجات أو خدمات نمت بشكل تدريجيلتصبح كيانات ضخمة قد تتجاوز قيمتها السوقيةالتريليون — مثل شركة أمازون .
فانظر مثلًا إلى قصة تطبيق «أوبر»: كان المؤسسان فيأحد الأيام الماطرة في باريس ينتظران طويلًا سيارة أجرة،وهي معاناة يومية متكررة، ففكّرا: «لماذا لا نطلب التاكسيعبر الهاتف؟» فكانت النتيجة تطبيق «أوبر» الذي تبلغقيمته السوقية اليوم نحو 193 مليار دولار وكذلك«أمازون»: بدأها جيف بيزوس بحثًا عن وسيلة لتوصيلالكتب إلى المدن البعيدة بسبب قلّة المتاجر، فتحوّلتالفكرة إلى منصة تُعدّ أكبر متجر إلكتروني في العالم.
وفي «إير بي إن بي»، كان المؤسسون يبحثون عن فندقفي سان فرانسيسكو خلال احد المؤتمرات، ولم يجدوامكانًا، فقرروا تأجير سريرًا في شقتهم مع الفطور والهواءالساخن؛ فأصبحت المنصة اليوم أكبر من سلاسل فنادقشهيرة مثل ماريوت وهيلتون وقِس على ذلك قصصًاعالمية أخرى: «تسلا»، «غوغل»، «واتساب»، «لينكدن»وغيرها؛ كلّها بدأت من ملاحظة بسيطة لحاجة حقيقيةلدى المجتمع، ثم تحوّلت إلى شركات عالمية .
إنّ الألماس موجود حولنا، وليس بعيدًا عنّا؛ إنما يحتاجفقط إلى تغيير زاوية النظر، والتأمّل في حاجات الناساليومية، وإيجاد حلول لها. فمن هذه الحلول الصغيرةتُولد المشاريع الكبيرة، وتنمو مع الأيام، خاصة في زمنٍقلّصت فيه الثورة الرقمية الحاجة إلى رأس المال والمكانوالزمان . ونستذكر القول المأثور لسيدنا عمر بن الخطابرضي الله عنه: «إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة»، وإنماالرزق يأتي بالسعي والعمل. وكما أراد احد الأشخاص ان يصبح ثريا فسال أحد الحكماء: من اين ابدا ؟ فردّ عليهالحكيم: «ابدأ من أمام باب منزلك .



