المقالات

خضوع أم استقلال

بقلم: د. ناصر الندابي

حينما نتصفح صفحات التاريخ بحثا عن جواهره ومكنوناته، بحثا عن صفاءه ونقاوته، نمر بالكثير من المكدرات، والعديد من الشوائب التي تحاول أن تحجب نوره، وتخفي معدنه وأصالته، فكم نحتاج إلى نحاتا ينحت في عمقه ليخرج لنا درره وجواهره، بعد أن تزول عنه الحجب وينجلي عن أصالته الغبش والعوالق المشؤومة.

كانت عمان وما زالت كيانا سياسيا مستقلا، يحكم من قبل أبناءه، فهو وإن مرت به فترات يخرج من أيديهم إلا أنه سرعان ما يعود إليهم، وما خروجه من أيديهم إلا بمثابة تنبيه لهم، لإعادتهم إلى جادة الصواب وبر الآمان بعد أن تمر عليهم سحابة شقاق واختلاف، ونوم وسبات، فيفقهم الغازي من غفوتهم ويزيل عنهم ما علق في قلوبهم من أدران الشقاق فتنجلي قلوب وعقول صافية قادرة على اقتلاع الجبال إن اعترضتها.

عماننا منذ أمد بعيد كورة مستقلة، ومملكة متماسكة عرفت مفهوم الدولة منذ أمد بعيد، يوم كانت الجزيرة العربية تهيم في نزاعات قبلية ولا تعرف سوى النزاع والاقتتال على توافه الأمور وسفاسفها، في ذلك الزمن كانت عمان تعيش مجتمعا متحضرا يشعر كل فرد فيه بأنه ينتمي إلى دولة شبيهة بتلك الحضارات الكبرى التي تحيط بها.

وعندما جاء نور الإسلام، اعترف النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الكيان السياسي، وأعطى أهله استقلالا وحكما ذاتيا بعد أن دخلوا الإسلام وخالط شغاف قلوبهم، فغدت عمان الثغر الشرقي والحارس الأمين الذي يحفظ حدود الدولة الإسلامية من جهته فلا تخشى المدينة المنورة أن تأتى منه.

وحينما مرت الأمة الإسلامية بذلك المنعطف الخطير وتلك الفتن المريرة التي عصفت بالمسلمين، وكادت أن تودي بالإسلام وأهله، في عهد كلا من الخليفة عثمان بن عفان والإمام علي بن أبي طالب، لم يكن العمانيون طرفا فيها ولا عنصرا من عناصرها، بل نأت عماننا بنفسها ولم تلطخ يدها بدماء المسلمين حينما ارتصت الصفوف وحمى الوطيس في الجمل، وحينما تقابلت جيوش الإسلام وسيوفه في صفين.

وبعد هذه المحن والإحن التي هبت على أمة الإسلام، انكشفت عنها صفعة لم يفق منها المسلمون، ولم يعوا ما يحيط بهم بعد أن استل حكمها بقوة السلاح معاوية بن أبي سفيان، ضاربا بكل قيم الشورى عرض الحائط، ومبعدا عنها صناديد الإسلام ورجاله الأوائل.
لم تَعْجب عمان بما نتج عن تلك الصروف، فهي دولة راسخة مكينة، خبرت السياسة وعرفت كيف تدار الدول وما يمكن أن تجره عليها الفتن من ويلات، لذلك ظلت حصنا شامخا للإسلام وأهله، ولم تزعزعها الظروف، وأعلنت حينها استقلالها الكامل عن الدولة التي يقودها معاوية بن أبي سفيان لأنها لم تر فيه الشخص المؤهل لهذا المنصب الذي ملأه من قبل صفوةُ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحينما نقلب ورقات مصادر التاريخ العماني منذ الإزكوي في كتابه كشف الغمة، مرورا بكتب ابن رزيق وانتهاء بتحفة السالمي، لا نجد منها من يقول أن عمان قد كانت جزءًا من دولة معاوية بل حكمها بنو معولة بن شمس منذ عبد وجيفر ابني الجلندى حتى عهد سعيد وسليمان ابني عباد بن عبد بن الجلندى، وأنه لم يكن بها ما يتصل بتلك الدولة الناشئة في دمشق.
ولكننا حينما نرجع البصر كرتين في روايات التاريخ الإسلامي العام فإننا نجد إشارات لا يمكن التعويل عليها ولا الاستناد إليها، وهي رواية تكاد أن تكون واحدة تتناقلها مصادر التاريخ بدءًا من الطبري مرورا بابن الأثير وانتهاء بابن كثير أن عماننا كانت جزءا من ولاية البصرة.

فأين الحقيقة ومن أين المنبع الذي يمكن أن نستقيها منه، هل من كتب التاريخ التي كتبت تحت ظلال حكومة تنظر إلى عماننا أنها عصية وعاصية لحكومتها، وند عنيد في أطراف كيانها، أم أننا نعبُّ من تلك المصادر الحقيقة المرة التي تعترف أن ما كتب بالتاريخ الإسلامي العام ما هو إلا إملاء لأهواء كاتبيه.
وحينما نصادف هذا الخلاف، ما علينا إلا أن نأخذ بقاعدة الإمام السالمي حينما قال معلقا على بعض الأحداث التاريخية العمانية: العمانيون أدرى بتاريخهم من غيرهم، وما دونوه في مصادرهم شاهد على ذلك وأن عماننا ظلت مستقلة عن دمشق حتى داهمتها جيوش الطاغية الثقفي الحجاج بن يوسف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى