المقالات

اللامركزية في فكر السلطان هيثم بن طارق: قراءة تاريخية

بقلم:د.بدرية بنت محمد النبهاني
باحثة في التاريخ

تحتفي عمان في يوم 11 من يناير بذكرى التنصيب السنوية للسلطان هيثم بن طارق، سلطانا لعمان خلفا للمغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، وقد ختم السلطان هيثم -حفظه الله- السنة الثانية من حكمه بلقاءات سامية من قصر الشموخ مع شيوخ وأعيان محافظات الداخلية والوسطى وجنوب الشرقية وشمالها، في برلمان مفتوح بين القائد وممثلين عن شعبه، ناقش فيها جلالته أطر الدولة وفلسفتها للمرحلة القادمة، مؤكدا على السير بالنهضة المتجددة نحو المستقبل بخطى ثابتة وراسخة.
فمنذ صدور المراسيم السلطانية بتشكيل الحكومة العمانية في 2020م، والتي أظهرت شكلا جديدا للتعامل مع المحافظات باعتبارها نواة للامركزية، وفق ما تتطلبه المرحلة الراهنة، جاء اجتماع مجلس الوزراء في 26 أغسطس 2020، ليثبّت فيه جلالة السلطان حفظه الله -مرة أخرى- على دعم سياسة اللامركزية والتي وضحتها اختصاصات وزارة الداخلية، ويؤكّد أن هناك مزيدا من الصلاحيات التي سيضطلع بها المحافظون؛ ليأتي العيد الوطني الخمسون في 18 نوفمبر 2020م ، ويؤسس جلالته هذا المبدأ من خلال خطابه، حيث قال: “وضعنا الأساس التنظيمي للإدارة المحلية، و ذلك بإرساء بنية إدارية لا مركزية للأداء الخدمي والتنموي في المحافظات ، وسنتابع بصفة مستمرة مستوى التقدم في هذا النظام الإداري بهدف دعمه وتطويره، لتمكين المجتمع من القيام بدوره المأمول في البناء والتنمية”.
وفي يوم الثلاثاء الرابع من ينايرسنة ٢٠٢٢ جاء لقاء القائد بالشيوخ والأعيان الذين يمثلون الشعب، وفيه أكّد السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- على سياسة اللامركزية التي ستتبعها الدولة في المرحلة القادمة، مؤطّراً لها خلال حديثه لماهيتها وآليّاتها.
وإذا كان خطاب جلالته معاصراً، فإنّ الباحث في عمق التاريخ العماني ليدرك أنّ السلطان هيثم بن طارق في حديثه حول هذا المحورإنّما ينطلق من مبدأ تاريخي راسخ في النظام السياسي العماني.
فسلطنة عمان بتاريخها الممتدّ المتجذّر في شبه الجزيرة العربية منذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى قيام نهضتها الحديثة على يد المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمه الله-، استمرت في انتهاج مسار سياسي حضاريّ ثابت في مرتكزه وفكره ، مختلفا في صورة التنفيذ . فمنذ قدوم مالك بن فهم – وإنْ اختلفت الروايات في هجرته والأزد إلى عمان- وصولا إلى رسالة النبي ﷺ لملكي عمان جيفر وعبد ابني الجلندى، اتضحت معالم النظام السياسي السائد في عمان شيئا فشيئا حتى العقد الثالث من القرن الثاني الهجري، ليتغيّر شكل النظام في القرن الثالث وما تلاه وفق مقتضيات المرحلة وتحديّاتها التي أبرزت نظام الإمامة، وهو نظام ما فتئ يحاول الصمود في وجه الأخطار الخارجية، إلا أنّ البلاد وبعد أن دخلت في صراعات داخلية وخارجية عاد إليها نظامها الملكي في القرن السادس الهجري ليستمر حتى يومنا هذا.
لعلّ أبرز ما يمكن أن يُقرأ بين الأسطر في النظام الملكي في تاريخ عمان السياسي هو اللامركزية في السلطة، فقد كانت المناطق الرئيسة والمهمة تخضع للسلطة المركزية وبها والٍ تخضع له يدير شؤونها. والقارئ في أحداث التاريخ العماني يسشف ذلك من موقف عبد وجيفر ابني الجلندى عندما قدم رسول المصطفى ﷺ ودخل ملكي عمان الإسلام، وبعد دخولهما أرسلا لبقية أقاليم البلاد ليعلموهم بالأمر، وأنّ الدولة قد انضوت تحت راية الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، مع الاحتفاظ باستقلالها في إدارة شؤونها.
وليس ببعيدٍ عن ذلك ما حصل في عهد دولة النباهنة، كما يقول الباحث عبدالرحمن السالمي: “القبائل الكبرى في عمان أبقت على مكانتها في الصراع، لكنّها مسلّمة في قيادتها نحو حكم عام هو حكم النباهنة، ولكنّ حكمهم كان شبه لامركزي، وهذا الذي صعّب على المؤرخين تحديد من هو السلطان المركزي الذي يسلم له الولاء الكامل، والولاء الكامل سيتبعه تلقائيا تسلسل لأسرة حاكم.”
لكنّ المركزيّة عادت للدولة في عهد الدولة اليعربية وفق الظروف التي مرت بها البلاد وقتها، إلا أن ظهور مفهوم الوالي الأكبر مثّل انعكاساً لرسوخ مبدأ اللامركزية لدى الساسة في عمان؛ ولهذا نجد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي(ت1059هـ/ 1649م) بنظرته الفذة في إدارة الدولة قد انتقى الأفضل علماً وخلقاً وقيادةً؛ ليتولى قيادة المناطق الرئيسة وسمّاه الوالي الأكبر، والذي يشبه مقام المحافظ اليوم، مهمته الأساسيّة هي أن يدير شؤون الرعية والبلاد تحت راية الإمام من أمثال: عبدالله بن محمد بن غسان الكندي الخراسيني(ت1050هـ/1640م) الذي كان واليا على نزوى، والشيخ بلعرب بن أحمد بن مانع الإسماعيلي واليا على إبراء وصور، والشيخ عامر بن محمد بن مسعود المعمري السعالي النزوي.
ويطالعنا التاريخ الحديث باستمرار البلاد على نهجها وفق الأحوال العامة فيها؛ لنجد لوريمر في كتابه السجل التاريخي لعمان والخليج العربي يذكر نماذج عديدة من سياسات السلاطين للامركزية وقيام الولاة بشؤون مناطقهم من إيرادات الدولة فيها، يذكر مثلا في عهد السلطان فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان (ت: 1331هـ/ 1913م) أنّ هناك والٍ يقيم عادة في حصن سمائل، وتعتمد سلطته على جماعة تتكون من 25 عسكريا تحت إمرة عقيد، كان الوالي يجمع -بمعونة العقيد وعسكره- سنويا حوالي 2400 دولار كخراج، ويصل من هذه الميزانية ألف دولار إلى خزانة مسقط، ويحتفظ السلطان فيصل بن تركي سلطان عمان بوالٍ كذلك في قريات وفصيلة تتكون من 15 رجلا يقيمون في قلعة بحيّ السوق، والوالي الحالي مفوّض بإدارة أملاك السلطان، وهي تتكوّن من النخيل وأرض صالحة للزراعة في قريات وتغل 350دولار سنوياً، الأمر ذاته ينطبق على الولايات الكبرى كنزوى وصحار.
وهكذا نجد العمق التاريخي والرسوخ للقيادة العمانية في نظامها السياسي ليؤكد الهُويّة الحضارية لها، منطلقة وفق هذه الأبعاد وما يتوافق والمرحلة التي تمرّ بها نحو مستقبل زاهر بإذن الله تعالى تحت القيادة الحكيمة للسلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى