المقالات

قراءة تقييمية لأحكام الإضراب في قانون العمل

بقلم: الدكتو بدر المسكري
كلية الحقوق جامعة السلطان قابوس

لما كان الإضراب أحد أبرز الحقوق التي اجتمعت تشريعات العمل الوطنية والدولية على تقريره وضبطه وإحاطته بضمانات مشروعيته، فقد جاء المقال ليسلط الضوء على معالجة المُشرّع العُماني لهذا الحق، ومدى استيعاب نصوصه الناظمة له لغاياته المرجوة منه وتطويعها على نحو يضمن عدم إهدار مصلحة صاحب العمل في سلامة تسيير منشأته. وقد نصّت الكثير من المواثيق الدولية على حق العامل في الإضراب، نذكر منها على سبيل المثال العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عام 1966 الذي نصّ في المادة 8/1 “تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة حق الإضراب شريطة ممارسته وفقًا لقوانين البلد المعني”، كما نصّت المادة 35/3 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عام 2004 على أن “تكفل كل دولة الحق في الإضراب في الحدود التي ينص عليها التشريع النافذ ) ، ولم يخرج المُشرّع العُماني على الإجماع التشريعي الوطني والدولي في تقرير حق الإضراب إذ نصّت المادة 127 من قانون العمل العُماني على ( للعمال الحق في الإضراب السلمي عن العمل في المنشأة لتحسين شروط العمل وظروفه …”.
ويمكن تعريف الإضراب بأنه امتناع العمال عن أداء العمل لتحقيق مطالب مهنية. وبالرجوع إلى قانون العمل العُماني نجد أنه نظم الحق في الإضراب بنصوص صريحة في المواد 127- 136، إذ نجد أن هذه النصوص وضعت ضوابط وشروط ممارسة العمل للإضراب وهي: أن يكون الإضراب سلمياً، وأن يكون بعد موافقة ثلاثة أرباع أعضاء الجمعية العمومية للنقابة العُمالية في المنشأة، وكذلك ألا يكون الإضراب في المنشآت التي تقدم خدمات عامة وأساسية للجمهور وذكر منها على سبيل المثال المنشآت النفطية والمصافي البترولية والموانئ والمطارات ووسائل النقل العام ومنح وزير العمل الصلاحية في إضافة منشآت أخرى، وكذلك من شروط القيام بالإضراب أن يتم إخطار صاحب العمل والجهة المختصة بشكل مكتوب برغبة العمال في الإضراب قبل ثلاثة أسابيع على الأقل من التاريخ المحدد له مع بيان الأسباب والمطالب، ويتم وقف الإضراب عند بدء إجراءات تسوية النزاع العمالي الجماعي، كما يترتب على الإضراب عن العمل احتساب مدته إجازة للعامل بدون أجر.
مما تقدم يتضح حرص المُشرّع العُماني على حق العمال في ممارسة الحق في الإضراب السلمي وقد تم تنظيم الحق في نصوص صريحة في قانون العمل وهو أفضل من الوضع في القانون السابق الذي نصّ على الحق في الإضراب في المادة 107 وترك تنظيمه للوزير المختص ليُصدر بشأنه قرار وزاري.
وتجدر الإشارة إلى أن الحق في الإضراب أضحى في العديد من الدول حقًا دستوريًا وليس جريمة أو منحة، وهذا الحق يستمد قوته من العديد من الاتفاقيات الدولية ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عام 1966 الذي انضمت له سلطنة عُمان بموجب المرسوم السلطاني رقم 46 /2020م. وقد تحفظت سلطنة عُمان على أحكام البندين (أ) و (د) من الفقرة (1) من المادة (8) والتي من بينها الحق في الإضراب وذلك بالنسبة للموظفين في الوحدات الحكومية. وهذا أمر يدعو للتساؤل عن سبب التحفظ بالنسبة لموظفي الدولة خصوصاً أن سلطنة عُمان قد نّصت على هذا الحق في قانون العمل، وهو ما يطرح تساؤلاً على بساط التفكير والبحث: ألا يعد السماح للعمال بالحق في الإضراب وحرمان موظفي الدولة من هذا الحق تمييزًا سلبيًا في ممارسة أحد الحقوق وبالتالي يشكل إهدارًا لمبدأ المساواة، خاصة وأن المُشرّع العُماني في المادة (197) من قانون الجزاء الحالي اعتبر الإضراب جريمة بالنسبة للموظف العام؟ إذ إن مبدأ المساواة أمام القانون مؤداه أنه لا يجوز أن يخل المشرع بالحماية القانونية المتكافئة للحقوق. ومن ثم كان هذا المبدأ حاميًا من النصوص القانونية التي تقيم تمييزًا غير مبرر، تتنافر به المراكز القانونية التي تتماثل عناصرها.
وينبغي التنويه إلى أن الأنظمة القانونية تاريخيًا قد اختلفت حول حق الموظف الحكومي في الإضراب، بيد أن الأمر استقر الآن على اعتبار الإضراب حقًا للموظف العام مع اختلاف تلك الأنظمة في حدوه ونطاقه.
إن استعمال العمال الحق في الإضراب هو وسيلة مشروعة لحصولهم على حقوقهم الوظيفية المشروعة مثل زيادة البدلات والحوافز وتحسين ظروف العمل وذلك دون تجاوز الحدود المعقولة لاستعمال الحق. وليس من المقبول عقلًا ومنطقًا أن يقر المُشرّع حقًا ثم يقرر عقابًا على الأفعال التي يقوم بها العمال من أجل ممارسة حقهم في الإضراب، بل أن يضع من القيود والضوابط التي تجعل القيام بالإضراب في الواقع العملي صعب المنال حيث بالرجوع للشروط والضوابط التي تم الإشارة إليها في السابق مثل منع الإضراب في المنشآت التي تقدم خدمات للجمهور وذكر منها الكثير من المنشآت وبعد ذلك منح الوزير المختص الحق في إضافة منشآت أخرى فماذا تبقى فعلياً لممارسة العمال لحقهم في الإضراب؟ كل هذه القيود والشروط تقود إلى تجريد الحق من قيمته وتعصف به كلياً وتجعل من إعماله واقعًا وراء جدران صامتة.
إن حق الإضراب أكثر ما يكون اتصالًا بحرية الرأي والتعبير من خلال وسيلة معينة يوظفون من خلالها خبراتهم ويطرحون آمالهم ويعرضون فيها مصاعبهم، ويتناولون بالحوار ما يؤرقهم. ومن ثم فإن حق الإضراب يعد مكونًا لأحد عناصر الحرية الشخصية التي لا يجوز تقييدها بغير وجود غاية موضوعية من مصلحة عامة تبرر ذلك، ويعتبر لازمًا حتى لو لم يرد بشأنه نص في الدستور، وذلك باعتباره مرتبطًا بالمدنية في مختلف مراحل تطورها. ومن ثم فقد صار لازمًا امتناع تقييد المُشرّع للحق أو الحرية إلا في الحدود التي تقضيها خطورة المصالح التي وجهتها لتقريرها، وكان لها كذلك سند من أهميتها وضرورتها، وكان تدخلها بقدر أهمية هذه المصالح ومداها.

ختامًا تناول المقال حق العمال في الإضراب السلمي ولا شك أن العلاقة بين رب العمل والعامل يشوبها المصالح المتناقضة والمتضاربة التي تؤدي إلى إخلال بالتوازن بين أصحاب المصالح والتي قد تتسبب في حدوث بعض الإضرابات السلمية التي حاول المشرع معالجتها بطريقة تكفل تحقيق التوازن بينهم وحفظاً لمصالح الدولة الاقتصادية والاجتماعية. نُشيد بالمُشرّع العُماني بنصه صراحة على حق العمال في ممارسة حقهم في الإضراب، ولكن في الوقت ذاته ندعوه إلى التخفيف من شروط وقيود ممارسة الحق في الإضراب وذلك حتى لا يُجرّد الحق من قيمته ويعصف به كليًا. ونوصي المُشرّع كذلك بالنظر في إمكانية رفع التحفظ المتعلق بحق الموظفين في الإضراب مع تنظيمه في قانون الخدمة المدنية بشكل يكفل تمكين الموظفين من ممارسة حقهم في التعبير عن رأيهم وفي الوقت ذاته حماية مبدأ سير المرافق العامة بانتظام واطراد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى