السياحة الداخلية في عُمان… جنة تنتظر من يكتشفها ويُنظمها

بقلم : علي المجيني
تربوي و خبير تخطيط
في عُمان، يمكنك أن ترى البحر والجبل والصحراء في يوم واحد، وتتنفس هواءً نقيًا لم تلوثه مصانع عملاقة، وتسمع أصوات الطيور بدل ضجيج المدن الكبرى ، ومع ذلك ، ما زالت هذه الجنة الطبيعية تنتظر أن تتحول إلى تجربة سياحية متكاملة ، لا مجرد مشاهد جميلة على اﻻنستغرام و جميع وسائل التواصل اﻻجتماعي .
في عُمان، يمكنك أن تبدأ صباحك على قمة جبل ، وتتناول غداءك على شاطئ بكر، وتشرب قهوتك في ظل نخلة وسط وادٍ أخضر ، لكن، تذكّر أن تبقي مشحونا هاتفك لكي تستخدم الخارطة ، وبعض الصبر، وربما كرسيًا قابلًا للطي… لأنك قد تحتاجه في انتظار الخدمات.
كثير من العمانيين والمقيمين يختارون قضاء عطلاتهم في الخارج ، ليس لأن الطبيعة هنا أقل جمالًا ، بل لأن التجربة السياحية في الداخل غالبًا ما تفتقر إلى الخدمات المريحة ، والفعاليات المستمرة، والتسويق الجاذب .
الزائر الخليجي أو الأجنبي يندهش من جمال الطبيعة ودفء الناس ، لكنه قد يحتار في الوصول إلى بعض المواقع أو يجد نقصًا في المعلومات والخدمات ،وجمال المكان وحده لا يكفي ، فالسياحة اليوم صناعة متكاملة تبدأ من التخطيط وتنتهي بذكريات لا تُنسى.
السياحة الداخلية ليست مجرد خيار ترفيهي ، بل فرصة اقتصادية وثقافية ، إذا أحسنا تنظيمها، يمكن أن تصبح عُمان ملاذًا للسائح المحلي والمقيم والزائر من دول الجوار والعالم.
عُمان لا ينقصها الجمال، بل ينقصها أن نُقدمه للعالم كما يليق به ، فلتكن البداية من الداخل… من المواطن والمقيم، قبل أن ننتظر السائح العالمي ليكتشفنا.
تشير الأرقام العالمية إلى أن قطاع السياحة يمثل ما بين ٨% و ٢٠% من الناتج المحلي اﻻجمالي في دول رائدة مثل فرنسا (٩٠ مليون زائر سنويا نسبة ٨ ٪ من الناتج المحلي اﻻجمالي ما يقدر ٨٣ مليار دوﻻر ) ، وإسبانيا ( ٩٤ مليون سائح سنويا و نسبة ١٣ ٪ من الناتج المحلي اﻻجمالي ما يقدر ٢٠٠ مليار دوﻻر ) ، وتايلاند ( ٣٥ مليون سائح سنويا نسبة ٢٠ ٪ من الناتج المحلي اﻻجمالي ما يقدر ٥٣ مليار دوﻻر ) ، و دولة اﻻمارات العربية المتحدة ( ٢٩ مليون سائح سنويا و نسبة ١٢ ٪ من الناتج المحلي اﻻجمالي مايقدر ٧٠ مليار دوﻻر ) ،والمملكة العربية السعودية ( ١١٦ مليون سائح سنويا نسبة ٥ ٪ من الناتج المحلي اﻻجمالي مايقدر ٧٥ مليار دوﻻر ) .
و في المقابل، لا تزال مساهمة السياحة في الناتج المحلي اﻻجمالي العُماني عند حدود 2.4% فقط حسب بيانات عام (٢٠٢٤) حيث يقدر ما يقارب ٧ مليار دوﻻر ( مليارين و سبعمائة مليون ريال) ، مع استهداف 10% الى نهاية رؤية عمان ٢٠٤٠ ما يقدر ١١ مليون سائح سنويا ، حيث أن السلطنة قد استقبلت ٤ مليون زائر في ٢٠٢٤ .
هذه الفجوة ليست ضعفًا بقدر ما هي فرصة ذهبية ، فإذا ما جرى الاستثمار في البنية التحتية، وتنويع التجارب، والتسويق الجريء، يمكن للسياحة أن تتحول إلى ركيزة أساسية في مسار التنويع الاقتصادي، وتصبح عُمان لاعبًا بارزًا على خريطة السياحة العالمية.
إن موسم خريف ظفار يثبت عامًا بعد عام أنه ليس مجرد حدثا موسميا ، بل ظاهرة سياحية واقتصادية متنامية ، فقد استقبلت المحافظة لهذه السنة حتى نهاية أغسطس نحو مليون و27 ألفًا و 255 زائر، بزيادة 2.1% عن العام الماضي، وهو مؤشر واضح على قوة الجذب التي تتمتع بها هذه الوجهة الفريدة .
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات ، بل رسالة تؤكد أن الاستثمار في تطوير الخدمات والبنية التحتية يمكن أن يحوّل هذا الموسم إلى علامة سياحية عالمية تحمل اسم عُمان.
كذلك لم يعد نُزل إحياء في حارة العقر بنزوى مجرد تجربة محلية محدودة، بل أصبح رمزًا لنهجٍ يتكرر في مختلف محافظات السلطنة، حيث تنتشر النُزُل التراثية والبيئية لتعيد الحياة إلى البيوت القديمة وتحوّلها إلى فضاءات ضيافة حديثة.
فمثل هذه النزل تتجاوز لتصبح نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا رائدًا.
فالمشروع الذي أسسته أيادٍ محلية يُسهم في خلق فرص عمل لأبناء المنطقة، ويُنعش الحركة التجارية فيها، ويُبرز قيمة الاستثمار في التراث كرافدٍ للسياحة المستدامة.
إن هذه النُزل تبرهن أن البيوت القديمة ليست عبئًا على حاضرنا، بل هي موارد حية يمكن أن تتحول إلى مشاريع تدر دخلًا وتُعزز الهوية الوطنية، وتفتح آفاقًا جديدة أمام الشركات المحلية لتكرار التجربة في قرى ومحافظات أخرى.
فقد بلغ عدد هذه النُزُل المرخّصة أكثر من 150 نُزُلاً حتى نهاية عام 2024، لتُجسد فكرة أن البيت العُماني العتيق يمكن أن يتحول إلى مشروع سياحي نابض، يجمع بين عبق الماضي وراحة الحاضر، ويُسهم في دعم المجتمعات المحلية وتعزيز الهوية الوطنية.
وتزخر عُمان بأكثر من ثمانين موقعًا طبيعيًا رئيسيًا موثقًا لدى الجهات الحكومية، تتنوع بين محميات طبيعية، وشواطئ بكر، وأودية خضراء، وكهوف مهيبة، وسلاسل جبلية شاهقة.
هذا التنوع البيئي والجغرافي يجعل من السلطنة لوحة مفتوحة لكل من يبحث عن الجمال النقي والتجربة الأصيلة .
لكن هذه الكنوز ، على روعتها ، تحتاج إلى لمسة تنظيمية وخدمات متكاملة ، حتى تتحول من مشاهد تُلتقط بعدسات الكاميرات إلى تجارب حيّة تبقى في ذاكرة المواطن والمقيم والزائر على حد سواء .
من قلعة نزوى العريقة إلى شاطئ المغسيل المهيب ، ومن قمم جبل شمس الباردة إلى أعماق جزر الديمانيات المليئة بالحياة البحرية، تمتد خارطة عُمان السياحية كلوحة فسيفسائية من التاريخ والطبيعة.
ولمن أراد أن يكتشف عُمان مثالا وفق برنامج في عشرة أيام، فهناك رحلة لا تُنسى تبدأ من مسقط حيث جامع السلطان قابوس الأكبر وسوق مطرح القديم ، مرورًا بقمم الجبل الأخضر وشرفة جبل شمس، ثم إلى وديان الشرقية ورمالها الذهبية، وصولًا إلى صور ورأس الجنز لمشاهدة السلاحف.
وفي ختام الرحلة، يحط المسافر رحاله في صلالة ليستمتع بشواطئ المغسيل وخضرة وادي دربات وعبق التاريخ في مرباط وطاقة.
عشرة أيام لا تكفي لتذوق مزيج عُمان الفريد من التاريخ والطبيعة والمغامرة، بل هناك برامج مختلفة متعددة المواقع والفعاليات والعديد من الخبرات التي يتذكرها العقل و الوجدان ، وهذا يرشدنا الى انه في كل منطقة و ولاية او محافظة و شارع بأنه يزخر بالعديد من المواقع السياحية .
ولكي تصبح عُمان وجهة سياحية عالمية، لا بد من الاستثمار في بنية تحتية سياحية متكاملة تخدم الزائر منذ لحظة وصوله وحتى مغادرته ، يشمل ذلك إنشاء مجمعات سياحية متطورة تضم فنادق ، ومراكز تسوق ، ومرافق ترفيهية ، ومناطق ثقافية في مواقع استراتيجية مثل مسقط وصحار وصلالة ونزوى.
كما يتطلب الأمر تحسين شبكات النقل الداخلي، سواء عبر الطرق الحديثة وشركات او مؤسسات سياحية خاصة أو عبر الرحلات البحرية بين المدن الساحلية، إلى جانب تعزيز الربط الجوي مع الأسواق العالمية عبر رحلات مباشرة وموسمية.
ان الانتقال من السياحة الإقليمية إلى العالمية يتطلب حضورًا قويًا في الأسواق المستهدفة ، حيث يمكن تحقيق ذلك من خلال فتح مكاتب اخرى للتمثيل السياحي في دول استراتيجية مثل الصين وإسبانيا وسنغافورة وماليزيا، حيث توجد اﻻن ١٥ مكتب حول العالم في دول ذات جذب سياحي مثل المانيا و بريطانيا و فرنسا و دبي و هولندا وايطاليا و روسيا والهند ، وعقد شراكات مع شركات سياحة عالمية لتنظيم حملات مشتركة ، كما أن الحملات الإعلانية المبتكرة في وسائل النقل والمراكز التجارية الكبرى في تلك الأسواق والاعلان في وسائل التلفزة العالمية ستسهم في وضع عُمان على خريطة السياحة العالمية.
السائح العالمي يبحث عن التجربة المتكاملة، وليس مجرد زيارة لموقع واحد. لذلك، يجب تنويع الأنماط السياحية لتشمل سياحة المغامرات مثل التخييم الصحراوي وتسلق الجبال والغوص، والسياحة الفلكية في مواقع مثل جبل شمس ورمال الشرقية، والسياحة العطرية لاكتشاف اللبان والورد الجبلي، والسياحة البحرية عبر رحلات اليخوت والصيد الترفيهي، بالإضافة إلى سياحة الفعاليات والمهرجانات على مدار العام.
ان الهوية العمانية هي رأس المال الحقيقي للسياحة في السلطنة ، يجب إبراز هذا التميز من خلال إنتاج محتوى رقمي عالمي المستوى يروي قصة عُمان، والتعاون مع مؤثرين وصناع محتوى متخصصين في السفر، مع التركيز على الضيافة العمانية كعنصر فريد لا يمكن نسخه أو تقليده.
عُمان تمتلك كل ما يجعلها على خريطة السياحة العالمية: طبيعة بكر، تاريخ عريق، وهوية لا تُشبه سواها ،، لكن الجمال وحده لا يكفي، فالعالم لا ينتظر من يتأخر عن السباق.
إن تطوير البنية التحتية، والانفتاح على الأسواق العالمية، وتنويع التجارب السياحية، وجعل الاستدامة ميزة تنافسية، وتسويق الهوية العمانية بجرأة، هذه ليست مهمة الحكومة وحدها، بل مسؤولية مجتمع كامل يرى في السياحة فرصة اقتصادية وثقافية، وجسرًا للتواصل مع العالم.
فإذا اجتمع التخطيط الذكي مع الشغف، ستصبح عُمان ليس فقط وجهة سياحية، بل تجربة عالمية تُروى وتُعاش وتُعاد .
فالسياحة في عمان يمكن ان تنتقل من سياحة داخلية الى جنة تنتظر من يكتشفها و ينظمها لتصبح سياحة عالمية .



