المقالات

عندما تنمو الكعكة… يربح الجميع

بقلم: هلال بن سعيد بن حمد اليحيائي

رئيس مركز بهلا الثقافي للعلوم والابتكار

لقد جاء كتاب «نمِّ الكعكة: كيف تقدّم الشركات العظيمة قيمة وربحًا» للكاتب أليكس إدمانز من أحدث وأهم الكتب في الفكر الإداري والاقتصادي الحديث، حيث أوضح العلاقة بين تحقيق القيمة المجتمعية والربح المالي في آنٍ واحد. ومن خلال مصطلح «تنمية الكعكة» قدّم المؤلفأليكسوهو أستاذ التمويل بكلية إدارة الأعمال فيجامعة لندن، وخبير رائد في مجال إصلاح الأعمال لخدمةالصالح العاممفهومًا جديدًا للنجاح في عالم ريادةالأعمال يرى إدمانز أن الشركات القائمة على خدمةالبشرية وحلّ مشكلاتها هي التي تُجسّد مفهوم الاستدامةالحقيقية، وتكسب رضا أصحاب المصلحة، وتحقق العائدالمستدام للمستثمرين. إنّ ما يُعرف بظاهرة الشعبوية،وتزايد اهتمام الشعوب بقضية أثر الشركات في البيئة والمجتمع، وما ينجم عن ذلك من تلوث الهواء والمياه والغابات، وزيادة الضغط على الموارد الطبيعية، وغياب بيئات عملٍ تضمن حقوق العاملين، إضافة إلى الاحتكار،وارتفاع الأسعار، والاستغلال المفرط للأسواق، وتحقيق المكاسب الكبيرة التي تُعمّق الفجوة بين الطبقاتكلّها عوامل دفعت المنظمات الحقوقية والجهات المعنية بحماية المستهلك والبيئة إلى زيادة الضغط على الحكومات لإصدار قوانين تحدّ من الجشع والاحتكار، وتفرض ضرائب أعلى على الأغنياء والشركات الكبرى، وتراجع ارتفاع رواتب الرؤساء التنفيذيين، وتُفعّل مفاهيم الحوكمة الرشيدة في إدارة الشركات .

لقد أصبح الوعي بالقضايا البيئية والمجتمعية وجودةالحياة المهنية داخل الشركات من أبرز المؤثرات الخارجيةفي بيئة الأعمال المعاصرة. ولم يعد الهدف الاقتصاديمحصورًا في تحقيق الأرباح فقط، بل تجاوز ذلك إلىالإسهام في خدمة المجتمع والإنسان وتحقيق التنميةالمستدامة. وأصبح المستثمر المعاصر يبحث عن شراءالأسهم في صناديق استثمارية ذات بُعدٍ مجتمعي تحقققيمة للناس، لا مجرد عائد مالي وتشير الدراسات الحديثةإلى أن دولارًا واحدًا من كل ثلاثة دولارات يتم استثمارهحاليًا في الأسواق الأمريكية يُوجَّه إلى الأسهم التيتراعي المعايير الاجتماعية والبيئية والحوكمة الرشيدة،بدلاً من الاعتماد على المعايير المالية البحتة فقط. وقدبلغت القيمة الإجمالية لهذه الاستثمارات نحو سبعة عشرتريليون دولار أمريكي داخل الولايات المتحدة .

وامتد تأثير هذه الظاهرة إلى الدول الأوروبية وشرقآسيا، ليصل مجموع الاستثمارات العالمية في هذا المجالإلى نحو خمسة وثلاثين تريليون دولار، بزيادةٍ بلغتخمسةً وخمسين في المائة خلال عام 2016م. كما شهدتاليابان نموًا استثماريًا غير مسبوق في هذا الاتجاهبنسبة 500% ، من خلال صندوق التقاعد الحكومي الذييُعد أكبر صندوق تقاعد في العالم، حيث رفع نسبةاستثماراته المسؤولة من ثلاثة في المائة إلى عشرة فيالمائة من إجمالي الأسهم. وقد بلغت قيمة استثماراتهالسنوية في عام 2016م أكثر من تسعة مليارات دولار فيإطار توجهه نحو الاستثمار المسؤول والمستدام  ، بلأصبح سلوك الشراء لدى المستهلكين حول العالم يتأثربمدى إسهام الشركات في خدمة المجتمع. فقد كشفتالدراسات أن ستين في المائة من المستهلكين يرغبون فيدفع مزيدٍ من المال مقابل منتجاتٍ تحمل قيمة مجتمعيةحقيقية، ولا مانع لديهم من دفع سعرٍ أعلى بنسبة ستةعشر في المائة عن المتوسط، مقابل تلك المنتجات التيتخدم الإنسان والمجتمع .

إنّ مفهوم أن تكون الغاية في صميم استراتيجيات الشركة،وبدافعٍ ذاتي لخدمة المجتمع،  من خلال تقديم منتجاتٍ أوحلولٍ نافعةٍ للبشرية وغير ضارّةٍ بها، ضمن إطارٍ أخلاقيٍيحقّق الاستدامة للإنسانية جمعاء ومن هنا تأتي شركةميرك كأحد أبرز الأمثلة التي ذكرها الكاتب في كتابه، وهيمن كبريات الشركات الأمريكية في صناعة الأدوية. فقدوضع أحد مؤسسيها، جورج ميرك، في أربعينيات القرنالماضي مبدأً خالداً قال فيه الأدوية خُلِقَت للناس، لالتحقيق الأرباح ” . وقد تجلّى هذا المبدأ عمليًا في قرارالشركة توزيع عقار لعلاج العمى النهري المنتشر في غربإفريقيا وأمريكا اللاتينية واليمن. ففي عام 1987م، اتخذ المدير التنفيذي روي فاجلوسوهو طبيب وعالم كيمياءالقرار الجريء بالتنسيق مع الشركاء بتوزيع الدواء مجانًا، وهو ما يزال يُقدَّم بالمجان حتى اليوم، لمساعدة الدول الفقيرة على التغلّب على هذا المرض المسبِّب للعمى، و حتى اليوم تم توزيع أكثر من أربعة مليارات جرعة في خمسين دولة، مما أكسب الشركة سمعةً إنسانيةً عالمية،وجعلها ضمن الشركات الأكثر تأثيرًا واحترامًا في العالم،وحظيت بتقدير المنظمات الطبية والإنسانية والهيئاتالدولية. وقد انعكست هذه الغاية النبيلة إيجابيًا على الشركة نفسها، إذ ارتفعت قيمتها السوقية لتصل إلى أكثرمن مئتي مليار دولار، وحققت أرباحًا قياسية بمعدل سنوي بلغ ثلاثة عشر في المائة منذ عام 1978م، وهو معدل يفوق متوسط السوق العالمية .

وجاءت بعد ذلك شركة فودافون البريطانية للاتصالاتلتجسّد الفكرة ذاتها من خلال خدمة تحويل الأموال عبرالهاتف المحمول. ففي عام 2007م، كان أكثر من خمسة عشر مليون كيني لا يملكون حسابات مصرفية، فأتاحت لهم هذه الخدمة إرسال واستقبال وسحب الأموال باستخدام الهاتف، دون الحاجة إلى حسابٍ بنكي وبذلك سهلت حياتهم اليومية من دفع الرسوم الدراسية والصحية والادخار وتحقيق الأمان لهم من السرقة وسهلت ارسال الأموال بين الاسر والاقارب والأصدقاء بدل من السفر لمسافات طويلة   وبحلول عام 2014م، ساهمت الخدمة في رفع مستوى معيشة أكثر من مئتي ألف أسرة كينية من الفقر إلى الاكتفاء، وأصبحت اليوم من أكبر منصات المدفوعات في إفريقيا، تخدم أكثر من أربعين مليونمستخدم، وتنفّذ أكثر من مليار معاملة شهريًا.

كما أشار الكاتب إلى قصصٍ أخرى لشركاتٍ جعلت خدمة المجتمع في صميم استراتيجياتها، مثل شركة يونيلفر منخلال خطتها للمعيشة المستدامة، وشركة كوستكو التي رفعت رواتب موظفيها فوق المتوسط وقدّمت تأمينًا صحيًا شاملًا لجميع العاملين، مما جعلها من أكبر مراكز التجزئة في الولايات المتحدة، إضافةً إلى شركاتٍ مثل جونسون آند جونسون ومايكروسوفت وغيرها من قصص النجاح التي أصبحت نماذج ملهمة في العالم لقد أثبتت هذه الشركات أنّ الغاية النبيلة ليست ضد الربح، بل هي الطريق إليه، وأنّ المؤسسات التي تلامس قضايا الناس وتلبّي احتياجاتهم بمنتجاتٍ وخدماتٍ مبتكرة، هي التيتبقى في موقع الريادة عالميا وفي نموٍّ وتوسّعٍ مستمرين .

وفي الختام، نستشهد بما قاله روي فاجلوسالمديرالتنفيذي السابق لشركة ميرك للأدويةفي مذكراته لقدأثبت التاريخ أن خدمة المجتمع لم تكن ضد الربح، بل كانتالطريق إليه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى