المقالات

فلنزهر حيثما زُرِعنا

 بقلم : هلال بن سعيد بن حمد اليحيائي

رئيس مركز بهلا الثقافي للعلوم والابتكار

كم نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى فترة تنوير للعقول، ورفعٍ للهمة،وإزالةٍ للشكوك والهموم التي تثقل كاهل الإنسان العربي، ذلكالإنسان الذي يعيش تحت وابل من المحتوى المتدفق، الذي في كثيرٍمنه لا يُصلِح بل يُفسِد العقول، خصوصًا عقول الشباب من طلابٍوباحثين عن عمل وموظفين ورواد أعمال لقد جاءت ثورة التقنيةوسهولة التواصل وسرعة انتقال البياناتخاصة عبر وسائلالتواصل الاجتماعيلترسم، بكل أسف، صورة قاتمة وسوداويةتُشخّص واقعنا على أنه بيئة طاردة للمواهب، وغير جاذبةللاستثمار، وأن القوانين في أغلبها ليست في صالح الناس. وفوقهذا، يدور الحديث في معظم النقاشات حول الترقيات والتوظيفوالتحديات اليومية، بينما نغفل عن الجانب المشرق من الحياة، وهوالأهم، والذي يمضي بوتيرةٍ سريعة لا يمكن إيقافها إن العمريمضي، ويَحسُن بنا أن نستثمره في العمل والبناء والعطاء، وفيتقديم ما هو خير ونافع للبشرية. فنحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى الشباب في ميادين العمل، إلى أجيالٍ تترقب منّا كلمة تحفّز وترفع الهمة، وتدفعها لمواصلة مسيرة العطاء للإنسان في هذا العالم الذي سخّر الله له ليُعمّره ويُبدع فيه

كم من آثار السابقين باقية أمامنا، مادية كانت أو فكرية، تشهد علىعظمة إنجازهم، وتُلهمنا لنقدّم نحن بدورنا شواهد أعظم، نضعهاأمام من سيأتون بعدنا ليواصلوا المسير إنّ البشرية، منذ أن خلقالله أبانا آدم عليه السلام، وهي في رحلة تقدمٍ وتطورٍ مذهلة، وفيكل عصرٍ تظهر لنا إبداعات الشعوب. ومن كان يصدق  أننا سنشهدهذا الكمّ الهائل من الابتكارات؟ من الكهرباء إلى الإنترنت، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، الذي يشكّل اليوم مَعْلمًا جديدًا في مسيرة الإنسان نحو الإبداع والتأثير كل هذه التحولات لم تكن إلا ثمرة إرادة الإنسان ورغبته في صناعة الأثر، أينما كان، وفي أي زمانٍ ومكان فلتكن رسالتنا: أن نُزهر حيثما زُرِعنا، ونُثمر حيثما أُتيح لنا أن نكون .

نحن نؤمن إيمانًا راسخًا بأنه ليس في هذا العالم دولة مثالية كما أشار إلى ذلك الفيلسوف أفلاطون، فالمثالية المفرطة والنرجسية والعيش على أحلام المستقبل دون عملٍ جاد، لن تجدي نفعًا، بل ستجعلنا عالقين في دوامة الحياة وهي تمضي سريعًا دون أن نشعر في هذا العالم، ولا شكّ أن ديننا الإسلامي الحنيف قد حثَّ المسلم على العمل، وأن يكون أداة خيرٍ لنفسه وأهله ووطنه، وأن يسعى بإخلاصٍ لرضا الله عزّ وجل، والنهوض بمجتمعه بالتعاون مع الآخرين في كل خيرٍ أينما كان وقد جاءت آياتٌ كثيرة في القرآنالكريم تحث على الإحسان والعمل، منها قوله تعالى في سورة البقرة (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُحْسِنِينَ) كما حثَّت السنة النبوية على العمل الصالح والبذل والعطاء، ومن ذلك قول النبي خير الناس أنفعهم للناس  وهناك مقولة جميلة تُنسَب إلى العالم جلال الدين الرومي تقول أينما أنبتك الله، ازهر  وهي تعد تعبيرا مجازيا انتشرت في الأدب الغربي، وحملت المعنى ذاته الذي يعبر عن الإيجابية في مواجهة الواقع، والعمل في المكان الذي أنت فيه لصناعة الجمال والخير .

كتابلقطات من العقلللكاتب الأمريكي وعالم النفس الادراكي جاري كلاين وهو عبارة عن لمحاتٍ من الحياة العملية، جاءت نتيجة عملٍ متواصلٍ لمدة ثلاثين سنة في دراسة القرار الطبيعي في الحياة الواقعية، أي طريقة تفكير الناس في الواقع وكيفية اتخاذ القرار في المواقف المعقدة والغامضة، من خلال دراساتٍ ميدانيةٍ شملت قطاعاتٍ أمنية وصحية وريادة الأعمال، وأصحاب مهنٍ في الزراعة والأسماك وغيرها ليستخلص منها دروسًا عميقة حول الحدس،والخبرة، والتعلم، والواقع الاستباقي، والتحيز، والعلاقة بين الإنسان والآلات ، وأهمية التدريب المستمر وخلاصة ما أراد أن يوصله جاري كلاين هو أن الذكاء الحقيقي لا يُقاس بالامتحانات، بل بالقدرة على الفهم والملاحظة والتصرّف السليم في المواقف الصعبة والمعقدة؛ فالخبرة والمرونة الذهنية هما الركيزتان الأساسيتان في التعامل مع متغيرات الحياة .

وفي إحدى لقطاته الذهنية، تحدّث الكاتب عن أحد المفاهيم الخاطئة التي ينبغي تصحيحها، وهي عبارةاتبع شغفك، إذ كثيرًا ما يتمّ الإشارة إليها في الخطب الطلابية في المدارس والجامعات، أو منخلال برامج التحفيز الذاتي والخطب الجماهيرية التي تحثّ على الذكاء والمثابرة والتفاني في الحياة، يعتقد الكاتب جاري كلاين أنّ هذه العبارة سلبية ومحبِطة للناس، وقد أشار إلى مجموعةٍ من الأسباب أو التحديات، منها قلّة الخبرة؛ فالطالب الذي تخرّج حديثًا وما زال يعيش في الأمنيات التي كان يردّدها منذ طفولته، عليه أن يدرك أنّ تحقيقها يتطلّب منه الجهد والعمل والمثابرة في الحياة الواقعية فحينما كان يُسأل في صغره: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟، كان يجيب مثلًا: طبيبًا، أو مهندسًا، أو طيّارًا، ولكن هذه الوظائف تحتاج إلى جهدٍ ومثابرةٍ وتفانٍ في الحياة العملية، ولايمكن الوصول إليها بمجرد الشغف أو التمنّي .

وهناك تحدٍ آخر، وهو الجهل الذي يبقى الشاب يعيش معه، فيحمل شغفًا ورغبة في إيجاد مسار وظيفي لا يرضي سقف توقعاته، وقد يأخذ هذا البحث سنواتٍ أو عقودًا من عمره تائهًا حتى يجده. وكل ما يُطرح عليه من مساقاتٍ مهنية يرفضها بحجة أنها لا تتوافق مع الشغف والرغبة التي تسيطر على عقله ومن التحديات أيضًا حب الذات والعيش مع النفس، دون أن يدرك الشاب أنه يجب أن يعيش الواقع، والحياة الاجتماعية القائمة على العمل الجماعي وخدمة الناس، وفي خدمة الناس وتوفير ما يحتاجونه من خدمات، يستطيع الإنسان أن يكسب المال، وهذا أمر يجهله كثير من الشباب الباحث عن عمل فالذي يعيش في شغفه وحياته النرجسية لن يستطيع تقديمأي خدمة يراها الناس ذات قيمة، وتستحق الدفع لها برواتب وحوافزمجزية. خذ مثلًا العاملين في القطاعات الصحية من أطباء واختصاصيين وفنيين  الأشعة والعلاج الطبيعي، أو العاملين في قطاع الطاقة من مهندسين وغيرهم، وكثير من الأعمال التي تقدّم خدمةً للناس وتستحق الأجر المناسب مقابل ما يقدّمونه

في كتابقانون النجاحلنابليون هيل، الذي نشر في عام 1928 م و يحتوي ثمار عشرين سنة من البحث والمقابلات مع 500 شخصية أمريكية في ذلك الوقت، من ضمنهم فورد، مؤسس شركةا لسيارات العملاقة فورد، وكارنيجي صاحب مجموعه كارنيجي للحديد، والمخترع إديسون، وغيرهم من الرؤساء الأمريكيين وعمالقة السياسة والقضاء والاقتصاد ، ذكر هيل أن النجاح في الحياة ممكن إذا آمنت بأنك تستطيع. وقد كرّر هذه الكلمات في كل فصولالكتاب، الذي بلغ عدد صفحاته 1170 صفحة، وهو من الكتب التيما زالت تعتبر من الكتب القيمة، التي كان لها أثر في الكثير منالرجال الناجحين في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وما زالتفلسفة الكتاب تعطي ثمارها لمن يقرأه بتمعن، ويفهمه، ويطبقه فيحياته العملية وهنا نؤكد على أهمية الإنسان؛ فإذا آمن بهدف في حياته، وأصرّ عليه، وسعى لتحقيقه بكل حماس، فسوف يصل إليه في نهاية الأمر. وقد ذكر نابليون هيل العديد من الشخصيات التي أخذت بفلسفة النجاح، واستطاعت أن تنشئ إمبراطوريات من الشركات العملاقة، ما زالت بعضها قائمة حتى اليوم .

أن المقال لا يتسع لشرح الكتاب بالكامل، ولكن من المهم أن يطلعالشباب على هذا الكتاب، ويحرصوا على ممارسة عادة القراءة. وهناأود أن أعرج على أحد القواعد التي ذكرها، والتي تنطبق على هدفهذا المقال، وهي قاعدة بذل جهد أكثر مما تتقاضى عليه أجرًا، أوما أطلق عليه الكاتبقانون زيادة العوائد وقد ذكر المؤلف قصصًا واقعية لأشخاص بدأوا العمل في المستويات الدنيا، ولكن من خلال هذه القاعدة استمروا في العمل لساعات طويلة، وحتى وقت متأخر، دون الالتفات إلى عدد الساعات المحددة لهم، فانجزوا أكثر مما حدد لهم. واستمروا في العطاء، فكسَبوا رضا المؤسسة والعاملين ومسؤوليهم، مما أتاح لهم فرص الترقي والتدرج والوصول إلى المناصب العليا، بفضل عطائهم وإخلاصهم وتفانيهم أكثر من الأجر المادي المتفق عليه ، هذه القاعدة يجب أن تكون شغلنا الشاغل، وأنتكون مبادرتنا في العمل دون طلب إذن للقيام بذلك، ولا انتظارالموافقة من أحد، أو استشارة أولئك الذين تقدم لهم الخدمة، لأنهاامتياز ممنوح نتحكم فيه بالكامل. وقبل أن تدرك ما حدث، ستجد أن العالم يدفع لك عن طيب خاطر أكثر مما تفعله فلا يمكنك أن تصبح قائدًا دون أن تقدّم أكثر مما تحصل عليه في المقابل، ولا يمكنك أن تصبح ناجحًا دون تطوير قدراتك ومهاراتك في العمل الذي اخترته 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى