المقالات

قناعة يتبعها نشر

بقلم: د. ناصر الندابي

ما زلنا نتفيّأ ظلال تاريخنا العماني في عصره الإسلامي الذهبي، تلك الفترة المليئة بالإنجازات، والتي صنعت لعمان قاعدة متينة مكينة، كانت قادرة على تأسيس حضارة ثابتة الأركان، عالية الشأن، عظيمة البنيان، تلك القاعدة التي صاغها الإسلام وهذّب مبادئها الفكر العربيّ الأبيّ الذي يأبى الضيم والخضوع والانقياد إلا لما يقتنع به ويراه صوابا، ولذلك حينما لامس الدين الجديد شغاف قلوبهم وخالط أفئدتهم وعقولهم، علموا أنه نور يتلألأ، وجوهرة ينبغي الحفاظ عليها والذود عنها.

بعد تلك القناعة الراسخة التي لم تزعزها الجبال، برز على الساحة مبدأ حب الخير للغير، فامتطى العماني فرسه ناشرًا دين الله عز وجل ورافعًا راية الإسلام خفاقة في سماء وطنه، يدعو أبناء جلدته إلى هذا الخير، ويحثهم لاعتناقه، مضى على هذا الحال ولم يهدأ له بال حتى عم الخير أرجاء الوطن، ودخل العمانيون في دين الله أفواجًا، فقد أبصروا الحق وبان لهم النور.

وعندما ارتقت روح المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام- إلى بارئها وخالقها، خرج من عماننا وفد رفيع المستوى معزيا أمة الإسلام والصحابة الكرام في مصابهم الجلل، كان على رأس هذا الوفد العظيم شخص عظيم يليق بعمان وبمكانتها في الإسلام إنه عبد بن الجلندى، ذلك الغضنفر لذي عرف حقيقته خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله على رأس جيش لمحاربة المرتدين من آل جفنة، فأبلى بلاء حسنا، وأظهر من الشجاعة والقوة ما يليق بقوة وطنه وصمود شعبه، ولا غرو عندما سطر شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام ثناءً على الملك عبد بن الجلندى أمامَ مسمعِ صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته قائلا :”قد شهر مقام عبد في الجاهلية والإسلام فلم أرى رجلا أحزم، ولا أحسن رأيا وتدبيرا من عبد بن الجلندى، فهو والله ممن وهب نفسه لله في يوم غارت صياحه وأظلم صباحه”.

لم تمر تلك الكلمات والعبارات الرائعة التي فاض بها قلب شاعر رسول الله، عن تعبير الصديق، بل قال قولته هو أيضا في هذا القائد الذي وفق فيه وكان عند حسن ظنه به، فقال لحسان :”هو يا أبا الوليد كما ذكرت والقول يقصر عن وصفه والوصف يقصر عن فضله”
عرف العمانيون القتال منذ أمد، فلولا همتهم لما بقيت عمان على قوتها وسطوتها، صامدة عتية على أعداءها، وما تلك المواقف التي ذكرناها آنفا إلا دليل على شجاعة العماني وحبه للموت دون وطنه، ودينه، وعرضه.
لم تكن مشاركة عبد بن الجلندى هي الوحيدة من نوعها في ذلك المضمار، فقد خرجت جحافل من جيوش عمان متجهة نحو فارس لصد فلول الفرس الفارّين من وجه جيوش المسلمين الفاتحة لإمبراطوريتهم، فاجتازوا البحر والتقوا بهم في جزيرة قشم، فلا تسمع إلا قرع السيوف وصوتها يدوي في سماء البحر، وفي خضم هذه المعمعة يخرج فارس الأزد جابر بن حديد اليحمدي قاصدا قائد الفرس “شهرك” فيحمل عليه بسيفه فيرديه قتيلا، وما هي سوى لحظات حتى لاح النصر في الأفق وبدأت جيوش الفرس تتقهقر أمام عزيمة العمانيين ورباطة جأشهم.

وبعد أن طهّر العمانيون مياه الخليج العربي من الفرس، وأذنابهم، توجهوا نحو بلادهم يفتحونها مدينة تلو الأخرى، ولا يقف أمامهم أحد، حتى بلغوا مدينة توج الفارسية، فأناخت إبلهم ونزلت خيولهم بها، وألقوا عصى الترحال، واستوطنوا هذه المدينة بعد أن رفعوا في أعاليها راية الإسلام خفاقة، ومن تلك المدينة المفتوحة انساب العمانيون نحو مدينة البصرة، التي غدت تعج بهم فيما بعد، وأمسكوا رايتها، وزمام أمرها، فغدت تعرف ببصرة المهلب لبروز هذه الشخصية العمانية الفذة قائدة للأزد وحامية لحماهم.

صحيح أن العمانيين نزلوا البصرة ولكنه لم يكن نزولَ استكانة وخنوع بل استراحة محارب، ليرى الوجهة القادمة والبلاد الأخرى التي يجب أن تستهدفها خيول المسلمين، وما هي إلا هنيهة حتى صدع نادي الجهاد، يا خيل الله اركبي، فداعب هذا النداء قلوب العمانيين وعقولهم، فهبوا ملبّين طائعين، فتوجهوا نحو مصر فاتحين، يتقدمهم رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليهم – عمرو بن العاص- فدخلوا معه مصر وفتحوها وأناروها بنور الإسلام وهدايته.

هكذا هم العمانيون، لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار حتى يرون دين الله منتصرا، ورايته عالية، وحزبه قائدا، وأرضه محفوظة وعرضه مصون.

​​​​​​​​

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى