المقالات

الدولة المدنية “والتَافِيات” الثلاث.. وزارة الإعلام أنموذجاً

بقلم : عبدالحميد الجامعي

تقوم الدول المدنية على أنظمة حكم وإدارة تشريعية وتنفيذية (وقضائية) ناجحة، لها -من جهة التنفيذ والتشريع- أركانٌ ثلاثة، بأثافٍ أو “تافياتٍ” ثلاث.. أما الأركان، فالحكومة (مجلس الوزراء)، والبرلمان المنتخب (مجلس الشورى)، والمُعيَّن (مجلس الدولة)، وأما الأثافي الثلاث، فالاستقلالية، والنِّدِّيَّة، والكفاءة.. من ثَمَّ فمقدارُ تقدم الدول وتطورها، يعتمد على مدى بعدها وقربها من استقلال الأركان الثلاثة وأثافيها.

وقبل تناول بعض الممارسات الأخيرة من وحدة من وحدات مجلس الوزراء (وزارة الإعلام) للتدليل على وضع عُمان من الدولة الكاملة في مجالسها قربا وبعدا، ربما يجدر بنا التعريفُ بالأثافي الثلاث؛ فالاستقلاليةُ تعني الانقطاعَ التام الإداري بين المجالس، وعدمَ وجود أي سلطة لمجلسٍ على آخر إجرائيًا وإداريًا، والنِّدية أن تمتلك المجالسُ ذاتَ القدرة على تناول موضوع معين مشترك بينهم، وأن لا يتفرد أحدها بقرار يثبت عدمَ جدواه من قبل المجالس الأخرى، وتكون هناك منظومة منضبطة لضمان ذالك المرور وتلك العملية، وأما الكفاءة فمتعلقها الأفراد في المجالس، وأن يمتلكوا مقومات العضوية، من تقديم المصلحة العامة على الخاصة، والأمانة والشفافية والجرأة، وكل هذه المقومات تصب في سُنَّةِ المدافعة الإلهية: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، والتي هي مانعةٌ للفساد بالطبيعة.

لقد طالعتنا وسائلُ الإعلام المختلفة لا سيما الاجتماعية منها على بعض المؤشرات التي يمكن منها تبيان وضع عُمان قربا وبعدا من الدولة المثالية والتقدمية ذات الأركان والأثافي الكاملة، فكان الأول قرار وزارة الإعلام عدم إيراد الوسائل الإعلامية لوقائع المحاكمات وعدم نشر تفاصيل محاكماتها للعامة، وكان ثانيها التعميم الصادر لوسائل الإعلام الخاصة بعدم إجراء مقابلات مع أعضاء مجلس الشورى بما يخص مجلس الشورى إلا باستثناء، وأما ثالث الممارسات غير المسؤولة فهو إيقاف إحدى مذيعات القنوات الخاصة عن تقديم برنامجها وأي برنامج آخر بداية ديسمبر عبر مهاتفة فقط من الوزارة وليس خطابا ورقيا أو إلكترونيًا رسميا، إيقافا مرتبطا بالتضييق على استضافة أعضاء مجلس الشورى في الإذاعة، بعد مقابلة عَبَّر فيها العضو عن موقفه ورأيه من رئاسة مجلسه ومن وزارة الإعلام مع الإعلام الخاص، وهو -إن صح أسلوب الوزارة في الإيقاف- يعكس درجة عالية من الاستهتار والمزاجية وأمن المحاسبة والعقوبة.

إن عملية التسلط التي تُقْرَأ من خلال قرارت وزارة الإعلام وممارساتها أعلاه ومن قبلُ -وإن زعمتْه الوزارةُ تقنينا، فقد زعم متسلطون من قبل من أمثال فرعون على موسى ذلكم التقنين (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) فما بالك بمن دونهم من أصحاب السلطة والقرار- إن تلك العملية تشي بغياب حقيقي لثافِيَتَيِّ الاستقلالية والندية، اللتَين يجب أن يتحلى بهما مجلس الشورى مقابل مجلس الوزراء، وهو مَنْزَعٌ خطيرٌ على مدنية الدولة، وعلى حريتها، وبالتالي على مناخها الصحي العام، الذي تحتاجه الأمم لتعزيز إنتاجها الفكري والإنساني والعلمي والاقتصادي والسياسي العام.

إن الناظر في هيكلة هذه المجالس الثلاثة، لا سيما مجلس الوزراء مقابل مجلس عُمان بجناحيه (الدولة والشورى) يرى مواضع الارتكاز والثقل الذي يتميز بها مجلس الوزراء (الحكومة) على مجلسي الشورى والدولة وأهمها:
– وجود رأس الدولة وثقلها الحاكم (جلالة السلطان) في مجلس الوزراء بترأسه إياه من دون المجلسين الآخرين، مما يجعله مجلسا ليس له نِدٌّ، بل ويجعلهما عمليا تابعينِ له، ويعملان تحت إمرته، وإن لم يتم التصريح بذلك أو الرغبة فيه، ولكن ممارسة مجلس الوزراء بوحداته المختلفة، وعملية تعاطيه مع مجلس الشورى في تسائلاته ومخاطباته تدلان على ذلك وتؤكدانه، ولم تكن التعاميم أو القرارت الثلاثة الأخيرة لوزارة الإعلام التي ذكرناها آنفا إلا دليلا آخر على تلك النظرة الفوقية والسلطة العليا التي يمارسها مجلس الوزراء في وحداته على المجالس الأخرى، وإلا فبأي سلطة تقوم وزارة الإعلام بتحجيم ظهور عضو مجلس الشورى في وسائل الإعلام، وبأي سلطة تمنع نشر حيثيات قضايا تخص الفساد، ونشر أحكامها ومرتكبيها، والله يقول: (فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ)، بينما الاستقلالية والندية تطلبان أن تصدر تلكم القرارت -إن كانت لتصدر- من قبل مجلس الشورى والمجلس الأعلى للقضاء وليس من قبل وزارة الإعلام، ويتم ذلك داخليا ضمن المجالس، وبعدها يتم مخاطبة وزارة الإعلام إن احتيج.
– السرمدية (النسبية) لعضوية مجلس الوزراء مقابل الدورات المحددة بأربع سنوات لعضوية مجلس الشورى والدولة، مما يجعل عضو مجلس الوزراء (الوزير) فوق الأعضاء الآخرين في المجالس الأخرى، وهو العنصر الثابت بينها، والثابتُ جذورُه متأصلةٌ مقابلَ المتغير، مما يضمن له قوةً فعلية أكبر، وحَلُّ هذا هو تدوير عضوية مجلس الوزراء لدورتين على أكثر تقدير، كل دورة لا تزيد عن خمس سنين (بالتوازي مع الخطة الخمسية)، أو بالشكل الذي يقترب بها الوزير -عضو مجلس الوزراء- في المقام من باقي أعضاء المجالس الأخرى.
– التعيين؛ يمتاز مجلس الوزراء بتعيين أعضاءه عبر مراسيم تصدر لكل عضو، بينما المجالس الأخرى فتكون عبر الانتخاب (الشورى)، أو التعيين بالجملة (الدولة)، وهذا يشكل فارقا مُهِمّا بين مجلس الوزراء وباقي المجالس، ويرفعه عليها تلقائيا، والحل هو في إيجاد آلية جديدة توازن بين القائم حاليا في تعيين أعضاء مجلس الوزراء، وبين ما يضمن تقليل البون الشاسع الذي تسببه العملية الحالية بينه وبين المجالس الأخرى، مثلا عن طريق إشراك هذه الأخيرة بتلقيها أسماء مقترحة لمترشحي رئاسة وحدة حكومية (وزارة)، لتقوم بعدها بترشيح خمسة منها (من عشرة مثلا) ورفعها لجلالة السلطان لمباركة أحدهم، ففي هذه العملية تشاركية بَنَّاءة في اختيار الوزراء والوكلاء، وتقوية لمجلس الشورى والدولة، وتجسير للهوة الكبيرة القائمة اليوم بين الحكومة والمجالس.
– المستوى التمثيلي، فمجلس الوزراء أعضاؤه أصحاب معالي، بينما مجلس الشورى خاصة أصحاب سعادة، بما فيهم رئيس المجلس، وهو ما قد يسبب تلك النظرة الشوفانية والفوقية، دون حتى أن يشعر بها مجلس الوزراء ولا مجلس الشورى، والتي تجعله يتعامل مع المجلسين على اعتبار أنهما يأتيان من بعده، وأنه مسؤول عنهما، متفضل عليهما، مما يَتعثرُ به أيُّ طلب لا يخضع لهذه المعادلة، وتكون فيه ريحة الندية بين المجلسين، والحلُّ بإفراد ألقاب جديدة على غرار ألقاب أعضاء مجلس الدولة المكرمين، خاصة بمجلس الشورى خلاف “سعادة” التي هي لوكلاء الوزراء ونوابهم، والذي قد يكون سببا لذلك الاستعلاء المشاهد والمجرب -مهما كان التنظير- من أصحاب المعالي في مجلس الوزراء لأعضاء مجلس الشورى، وأيضا إكساب رئيس مجلس الشورى لقب معالي على غرار مجلس الدولة!

إن عدم المسؤولية والظلم الذي تمارسه وزارة الإعلام اليوم (كوحدة من وحدات مجلس الوزراء) ليس لها حل إلا بإقالة الوزير الحالي (رئيس الهيئة سابقا) ومحاسبته على ما فرَّطَ في جنب الوطن، ومحاكمته فيما يثبت عليه من مظالم وتعسف، هذا على المدى العاجل والقريب، وهو أمر ضروري وحاجة ملحة وطنية بالنسبة لمدى تأثير بقاء هذا الوزير على وزارة الإعلام -السلاح الاستراتيجي المهم للدولة- (ونحن في ذيل الدول في الحرية الإعلامية في ٢٠٢١ بالترتيب ١٣٣ من ١٨٠ دولة)، بل ومدى تأثيره على جلالة السلطان شخصيا، باللغط الذي تثيره تجاوزاته التي أزكمت الأنوف، دون أن يكون هناك ردة فعل بإقالته فضلا عن محاسبته، وهو ما يثير علامات استفهام كبيرة وعديدة، جلالتُه وعمانُ وشعبُها في غنىً عنها، أما المدى البعيد فبمعالجة وضع المجالس الأخرى مقابل مجلس الوزراء (الحكومة)، واكتسابها لضرورتَيِّ الاستقلالية والندية، واللذَانِ على مستوى التعامل اليوم غائبان أو مغيبان، وربما أول هذا الاكتساب بوجود صياغة جديدة يجعل السلطان على مسافات متساوية بينه وبين المجالس الثلاثة، وربما أول هذه الخطوات أن ينتهي ترأس جلالته لمجلس الوزراء شخصيا، مع إبقائه على المرجعية المطلقة للدولة لديه، ولدى مكتبه ومستشاريه، بصورة عملية ودون انبتات ولا انقطاع.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى