وهج الحروف

دموع صاحبة الكمامة

بقلم : سامي المعمري

 كان البحر قِبْلَةَ عَيْنَيْهَا و أمواجهُ الثَائرة خَاشِعة في مِحرابِ نَاظِرَيهَا،حتَّى أَننِّي أحسستُ لِوَهْلة بِأنَّها و البحر يتكلَّمان بِلُغَةٍ خَاصَّة لا يَفهَمُها غَيرَهُما ،تِلكَ هِيَ الفتاةُ التِي تَجلسُ الآنَ على الكُرسي المقابل للبحر،أراها دوماً غارقة في قاع تفكيرها،وبحر عينيها يغشاهُ دمعٌ من فَوْقِهِ دَمع، و يَلُفُّ وجهها الجميل كِمامة سوداء،أمَّا بريق عينيها المُخضَّب بالدِموع فَيَلمعُ كالنجم للعيان،فلا يكاد يراها أحد من مُرتادي الشاطيء إلَّا ويلمح هذه الفتاة ذات القسمات الشاحبة والتي لا يرتسم على مُحيَّاها سوى كِمامةٌ سوداء و دمُوع جَارية. منذ أيَّام وأنا يَنتابني الفُضول للتعرُّفِ عليها و الحوار معها،لكن سريعاً ما يحملني تيَّار التردد إليه فأَصُدُّ عن أمري وأمتنع،فَهِيَ لَمْ تَسمح لأَحدٍ قَط بالإقترابِ منها.

لكنِّي في هذا اليوم حسمتُ أمري وقلتُ لا مَناصَ مِنَ الجُلوس والتكلُّمِ مَعها. إِقْتَرَبْتُ نَحوهَا بِخطواتٍ خَجلى حتَّى جَلَستُ بِقربها،وسَلَّمتُ عليها،لكنَّها لم تَنبس ببنتِ شَفَةْ،فَأَعَدتُّ السَلامَ مَثْنَى وثُلاثَ و رُبَاع،وعِندها هَمَسَتْ بِقولها: يا زماني كَمْ أَبكاني طول أحزاني. ونَهَضَتْ ذَاهِبة،وجلستُ مع نفسي أفكر في عبارتها التي نطقتها فسرحتُ مع أمواج البحر و دون أن أشعر وَجَدتُ أَنَّ صفحة السماء قد تَلَوَّنَت بالسَوَاد ، وأمواج البحر قد هَدَأَتْ ،فَعُدتُّ مُسرِعة إلى المنزل على أَمَلِ أن أَلْقَىْ الفتاة في الغَد وأخوضُ معها حِواراً آخر.

 في اليوم التالي كُنتُ أَرصد مَجِيءَ الفتاة،فَلَنْ يَهدأ لي بال حتَّى أعرِفَ حقيقتها وَلَن أرتاحَ حتَّى أُكِلِّمَها،أَطَلَّت الفتاة أخيراً بِكِمامتها السوداء فَجَلَسَتْ على الكرسي كالمعتاد، ودموعها المُنسابة تتلألأ على وجهها النَّدِيْ، والبحر يُزمجِر بأمواجه في صَخَبٍ وعُنفوان ..هُنا مَضَيْتُ نَحوَهَا و تَسلَّحتُ بالأملِ و بالثِقَة، وجَلَستُ بالقربِ مِنها ، اِبتَسَمْتُ لها وسَلَّمْتُ عليها بِاحترام قائلةً لها:مَرحباً أنا لُجَيْنَةْ وَمَنزِلُنا قَريبٌ مِنَ الشَاطِيء وآتي مَساءَ كُلَّ يوم لِأُمَارِسَ رِياضَة المَشي. ثُمَّ سَألتُهَا: لماذا أنتي دَائِمة البُكاء؟ أخبريني بقِصَّتِك،أخبريني باللَّهِ عليكِ. لَكِنْ لَا رَدَّ يَأتيني ولا جَواب،طالَ الصَمتُ بَيننا ، وكُنتُ على أُهْبَةِ الذَهَاب،لَوْلَا أَنِ اِنطَلقَ لِسَانها أخيراً بالكلام لتقول : أنا فتاةٌ وحيدةَ أمي و أبي،كانت وسائل التواصل الإجتماعي حياتي وعالمي ،كان لي مِنَ المُتابعين الكثير والكثير ، وحملت لقب “فاشينيستا”،وبذلك أصبحت احدى مشاهير السوشيال ميديا، وأخذت عروض الإعلانات تنهال علي والأموال تزداد وتزداد،صرت أشبه بالعبدة التي تركض خلف المال،وأي إعلان صغيراً كان أم كبيرا كنت ألهث وراءه كالمجنونة ، كان مرض كورونا قد تفشى وانتشر وأنا لم أكترث له على غير كل البشر ، كان ولعي بالسوشيال ميديا وإعلاناتها و أرباحها فوق كل اعتبار، أتتني أعراض المرض ولكن كنت أقول لن يجرؤ مرض كهذا من المساس بأميرة مثلي، والأسوأ من ذلك أنني كنت أخالط والداي دون أدنى اهتمام لكونهما كبيران في السن ، وفي يومٍ كُنتُ عَائدة إلى المنزل عَلِمْتُ بِأنَّ أبِي و أُمِّي أُصِيبَا بكورونا وهُمَا الآن يَرقُدان بالمُستشفى وأَننِّي سَبَبُ العَدوَى ، فلقد أََلْصَقْتُ المَرَضَ بِوالِداي..

وهنا أَجْهَشَتْ الفتاة بِالبُكَاء بِصوتٍ مَسمُوع ثُمَّ تَابَعَتْ حِكَايَتَهَا قائلة: وبعدَ أسبوع تُوفِّيَ والِدَاي فِي يَومٍ واحد وحَلَّقَ النَعشَان أمامي كَجَنَاحَيْنِ لِطائر المَوت،فَمَضَى يَطيرُ و يُرفرفُ حتًّى هبَطَ على المَقبرة ليُوَارَى وَالِدَاي الثَرى ويُصبِحَان من المَاضي الحَزين،واليوم أنا وحيدة و يتيمة، والسعادة التِّي كُنتُ أعتقدُ بِوجُودِها في عالم التَسوُّق ووسائل التواصل ما هِيَ إلَّا سعادة مُزَيَّفَة،فَلَقَد أَعمَاني حُبُّ الحَياة عن أشياءَ كثيرة فَأَهْمَلتُ العَدِيدَ مِنها وأهمها والداي، وَلَمْ أعِيْ قِيمتها إلَّا بعدما ذهبت وتَوَارَتْ خَلْفَ حُجُبِِ اللاعَوْدَة.. إننِّي أكتوي بنار الندم ولا أَجِدُ مَلاذاً يَحتوِيني سوَى البحر ، آتي إليه أَنَاديهِ و أُنَاجِيه،أهْمِسُ إليه،أُخبِرُهُ بِكُلِّ ما يَجُولُ في خَاطري،لَعَلَّ ذلك يُخَفِّفُ شَيئاً من آلامي.

 لقد اِستَمَعتُ لها بإنصَاتٍ عَجيب، تَعَاطَفتُ مَعها مع أننِّي أَعلَمُ بأنَّهَا مُخطِئَة في بعضِ الجَوانب،لكننِّي احترمتُها لإِحسَاسِها بالنَدَم،لِهذا بَادلتُها بِمشاعرِ الحُزن والأَسَى،حتَّى أَنَنِّي دَخَلتُ في بُـكاءٍ عميق، واندمجتُ مع أحزاني إلى أن اخْتَفَتْ الفتاة عَنِّي بَعدَمَا أسدلَ الشَفق سِتارهُ الأحمر وأعلَنَ مَسرحُ الغُروب عن أُوْلَى فُصُول الظلام، وفي مشهدِ الغَسق بَدَأَ المَدُّ والجَزر يَعزِفَان سُمفُونِيَّة الأَمواج المُتَلَاطِمَة ليُعلِنان عن مَوتِ نهار وميلاد ليل.

وفي اليومِ التالي كان يَحدُوني الشوق أكثر إلى لُقياها، وعِندما بَدَأَتْ تَهُبُّ نَسَائِمُ الأصيل العليلة إِنْطَلَقْتُ مِنَ المنزلِ.. إنِّي الآن أمضي نَحوَ الشاطيء بخُطىً واثقة، فأنا الآن أصبَحتُ صديقة الفتاة ، وبينما كُنتُ أقتربُ من مكانِ جُلوسها المُعتاد، شَاهَدتُ دائرة بَشَريَّة و مَجموعة مِنَ الناسِ تُحِيط بِشَيءٍ ما،بَدَأَ قلبي بالخَفَقَان حتَّى وَصَلْتُ بِقُربِ الجُموع المُحتَشِدَة ، دخلتُ بينهم ونَظَرْتُ إلى ما يَنظُرون إليه ، فَصَرَخْتُ مع نفسي يا إلهي إنهَّا الفتاة مُلقاة على الأرض والبعضُ يُحاول إسعافها،أُزِيحَت الكِمامة السوداء بعيداً من على وجهها،فرأيت ثغرها الذابل وقد تشقَّقَ مِن غَزارةِ الدموع ، وصاحت الأصوات : لقد ماتت الفتاة ، لقد ماتت الفتاة ! لقد جاءت كلماتهم كالصَدمة وَشَعَرتُ وكَأنمَّا الأمواج تُرَدِّدُ صَدى أصواتهِم ووضعتُ يداي على أذناي، وَضَاقَت بِيَ الأرض بِمَا رَحُبَتْ، وأَحسَسْتُ كأنمَّا سُحُب سوداء تُداهِم سماءي، فَتَهَاطَلَتْ عَينايَ بالدمعِ الغزير ، ونَادَيتُ بِأَعلَى الصوت: يا إلهي..كيف ماتت..؟! 

وحُمِلَتْ الفتاة بَيْنَ الأكتاف و مَضَت الجُموع تَختفي عَن نَاظِري شَيئاً فَشَيْئَاً ، حَتَّى بِقِيتُ لوحدي ، و أمواج البحر تتلاطم بِقوَّة وكأنها تصرخُ كَمَدَاً على فِراقِ الفتاة ، إلْتَقَـطتُّ كِمامتها بين يَدَيّْ وما زَادَنِي أَلَمَاً هُوَ أَنَّ الكِمامة لا تزال مُبللة بالدموع،تَأَوَّهْتُ حُزناً ثُمَّ مَضَيْتُ إلى المنزل وأنا في حَالةٍ يُرثى لها. جَلَسْتُ في غُرفتي والكِمامة السوداء بين يَدَي وآثار الدموع واضحة عليها،وقُلْتُ لنَفسِي نَعَمْ لَقَد مَاتت الفتاة و رَحَلَتْ عَن الحياة،فلقد جف نبض قلبها وما عاد لها أن تتحمَّل نزفاً أكثر من ذلك ، فشاءت الإرادة الإلهية أن تموت الفتاة، ولكنَّهَا أبْقَتْ أَثَرَاً على كِمامتها وهِيَ دموعها ،فهذهِ الدُموع لَيْسَتْ كَأَيِّ دُموع، فالدموع كانت شَاهِدَاً على مَرَضٍ لَعِينْ غَزَا العالم بأسره،مَرَض كان سبباً في فِراق وَالِدَيْنِ عَن إبنتهِمَا،مرض بوجودهِ قضى على فتاة ماتت من أحزانها ومن إحساسها بالذنب والندم.. هذا المرض الذي جعل فتاة تعيش حَياةً سَوداء تَماماً كَلَوْنِ كِمامتها.

ونمتُ ليلتي فرأيت الفتاة في المنام، كانت تقف بلا كمامة في وسط البحر ، بينما أنا كنت راكبة في قارب على مسافة قريبة منها، فكلمتني وهي تلعب بماء البحر بيديها لتقول لي: هل تعلمين لماذا البحر شديد الملوحة؟ لأن ماء البحر هو دموع الناس، أما هيجان البحر في المد والجزر فهما تلاطم الذكريات و الأحزان ! ثم حال الموج بيني وبينها وأفقتُ من منامي.

حينها أخذتُ الكِمامة السوداء التي احتفظتُ بها ووضعتها في صُندوق أَسْوَدَ صغير وأغلقته بإحكام،لتظل الكمامة ذكرى حزينة في عصر كورونا.

وبعد ثلاثة أيام قضيتها حُزناً على الفتاة، عدتُ أمشي على الشاطيء من جديد و لمحتُ الكرسي الذي كانت تجلس عليه الفتاة قد اختفى ولم يعد له أثر ، وكأنما هناك مَن أزاحه مِن مكانه لأنه لم يطق رؤية الكرسي بعدما فارقته الفتاة للأبد.
(تمت)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى