في عصر العولمة المنفلتة .. هل يحتاج العالم لنموذج تعاون مرن؟

وهج الخليج ـ وكالات
مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير الماضي بات واضحا أن قطار العولمة الذي قادته الولايات المتحدة والغرب منذ نهاية الحرب الباردة قد وصل إلى نهايته وأن العالم يتجه نحو مرحلة جديدة للعلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية. فالرئيس ترامب وقبل تنصيبه أعلن رفضه للكثير من أسس العولمة بدءا من حرية التجارة والمنظمات متعددة الجنسيات والاتفاقيات الدولية، وذلك بعد عقود من حديث الغرب عن سعي العولمة إلى تحقيق أدنى تكاليف الإنتاج، بما في ذلك في أراضي الدول المتنافسة، وتشجيع المزايا النسبية للاقتصادات المختلفة وحرية المنافسة والحركة للسلع ورؤوس الأموال وصولا إلى تحقيق الرخاء والازدهار لكل شعوب العالم. لكن وصول قطار العولمة إلى محطته الأخيرة لا يعني توقفًا أو تباطؤًا في التجارة العالمية. بل على العكس، لا يزال التفاعل والترابط العالميان أساس السلام والازدهار على حد قول كوش أرها رئيس المنتدى الهندي الحر والمفتوح وجيمس جاي كارافانو كبير مستشاري رئيس مؤسسة هيرتيدج فاوندشن (مؤسسة التراث) البحثية الأمريكية في التحليل الذي نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية.
 ويرى الباحثان أن مستقبل الاقتصاد والأمن العالميين سيتشكل من خلال تواصل متنوع ومرن وموثوق بين منطقتي المحيطين الهندي والهادئ من ناحية والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي من ناحية أخرى. فقبل رحيله صاغ شينزو آبي، رئيس الوزراء الياباني الراحل، رؤيةً لـ”منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة” لا تخضع لأي نفوذ قسري، حيث تطمح معظم الشعوب إلى العيش في مجتمعات حرة ومفتوحة، وتحقيق الرخاء من خلال أسواق حرة ومفتوحة. قد تفسر بعض الدول والمناطق مفهوم “الحرية والانفتاح” على أنه حالة إيجابية ومعيارية، بينما قد تفسره دول أخرى بالأساس على أنه غياب الإكراه من جانب الجهات أو القوى الكبرى الخبيثة. وفي الوقت الذي تزايد فيه الحديث عن نهاية عصر العولمة، شهدت الممرات التاريخية للتبادلات التجارية والثقافية بين دول العالم، انتعاشًا جديدًا خلال السنوات الأخيرة مما يُضفي حيويةً جديدةً على مساحات العالم الحرة والمفتوحة. على سبيل المثال، تجدد الاهتمام بالممرات البحرية الهندية المتوسطية، التي تربط نقاطًا رئيسية عبر آسيا والشرق الأوسط وأوروبا.
 وقد أصبحت الهند ـ أسرع اقتصاد كبير نموًا في العالم والتي ستصبح ثالث أكبر اقتصاد في بحلول عام 2030 ، في وضع جيد مرة أخرى لدفع التجارة مع غرب آسيا وأوروبا والدخول في “طريق ذهبي جديد”. ففي عام 2023، خلال رئاسة الهند لمجموعة العشرين، أطلقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإيطاليا وألمانيا وفرنسا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والهند مبادرة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا و تهدف هذه المبادرة الواعدة إلى تعزيز التجارة بين آسيا أوروبا بعيدا عن قناة السويس من خلال تطوير شبكات الطرق والسكك الحديدية المتكاملة التي تنطلق من الهند وتصل إلى أوروبا عبر شبه الجزيرة العربية وموانئ شرق البحر المتوسط وبخاصة في إسرائيل وتركيا. وقد أصبح التعاون الاقتصادي بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة ممكنًا بفضل التقارب الدبلوماسي بين الدولتين من خلال اتفاقيات إبراهيم. وقد يشمل هذا الاختراق الإقليمي المملكة العربية السعودية في المستقبل القريب، مما سيعزز الروابط التجارية بين منطقتي الخليج والبحر الأبيض المتوسط. وقد يُتيح ممر تجاري مُكتمل للتجارة الهندية المتوسطية فرصةً استثنائيةً للنمو الاقتصادي والازدهار لشعوب الأردن وإسرائيل وفلسطين، كما أن حدوث تقارب بين إيران وإسرائيل، وإن بدا بعيدًا في اللحظة الراهنة سيُشكّل نقطة تحولٍ تاريخيةٍ في مسار التجارة الهندية المتوسطية المتنامية. إن الروابط الوثيقة بين المساحات الحرة والمفتوحة في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ من ناحية و المناطق الأطلسية المتوسطية من ناحية أخرى والممتدة من جزر المحيط الهادئ إلى منطقة البحر الكاريبي، مهيأة لتشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي.
 ويرى كوش أرها الباحث غير المقيم في مجلس الأطلسي ومعهد كراش لدبلوماسية التكنولوجيا وجيمس جاي كارافانو الخبير في الأمن الدولي وتحديات السياسة الخارجية أنه يمكن للمشاريع الجيوسياسية الثلاثة وهي الحوار الأمني الرباعي “كواد” الذي يضم أستراليا وبريطانيا والهند والولايات المتحدة، ، ومبادرة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، “وميثاق حلف شمال الأطلسي الجدي” تحقيق هذا السيناريو. ومن مصلحة الولايات المتحدة أن تكون بمثابة القوة الدافعة وراء المشاريع الثلاثة، مما يعزز الروابط بين المناطق ويحفز هذا التحول. ومن المرجح أن يتطور الحوار الرباعي الأمني من شراكة غير رسمية إلى جهاز مؤسسي يمكنه الحفاظ على استقلالية المحيطين الهندي والهادئ وتعزيزها. وعززت اتفاقية التجارة الحرة الجديدة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا حركة التجارة في أمريكا الشمالية وقللت الاعتماد على الصين، ودعمت التصنيع الأمريكي. ومن خلال الإصلاحات، يمكنها أن تُكمل شعار “أمريكا أولاً” من خلال تعزيز الأمن الاقتصادي لأمريكا الشمالية ومرونته. من المقرر أن تؤكد الأطراف الثمانية الأعضاء في مبادرة الممر الاقتصادي للهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهي الاتحاد الأوروبي، وفرنسا، وألمانيا، والهند، وإيطاليا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة – بالتنسيق مع مصر، وإسرائيل، وتركيا، على أن منطقة البحر المتوسط – الهندية هي الممر الاقتصادي والأمني الرئيسي الذي يربط بين المساحات الحرة والمفتوحة في آسيا وأوروبا.
 ومن المصلحة الاقتصادية والأمنية لكل دولة موقعة على المبادرة الاستثمار في تحقيق النجاح الأمثل لها. بالإضافة إلى ذلك، توفر المبادرة فرصة استثنائية للدول الأفريقية لدمج اقتصاداتها المتنامية في أحد أكبر الممرات الاقتصادية وأكثرها حيوية في العالم. وهناك حاجة إلى ميثاق أطلسي جديد لاستكمال المسارات الحرة والمفتوحة عبر محيطات العالم. في الأيام الأخيرة من رئاسة ترامب الأولى، صاغ مجلس الأمن القومي التابع له استراتيجية أطلسية لمكافحة النفوذ الصيني الخبيث في منطقة المحيط الأطلسي. ومن المرجح أن تستكمل ولاية ترامب الثانية المهمة غير المكتملة المتمثلة في إعادة تأكيد استراتيجية أو ميثاق الأطلسي.
 وأخيرا يرى أرها وكارافانو أن العالم يحتاج إلى نموذج عملي ومرن لدخول عصر جديد، عقب عصر العولمة المنفلتة، بينما تنخرط القوى العظمى في لعبة كبرى جديدة. فالولايات المتحدة وخصومها، الصين وروسيا لا تمتلك القوة والنفوذ اللازمين لتقسيم العالم فيما بينها إلى مناطق نفوذ خاصة بهم. بل إن المسارات التقليدية التي ربطت الكتلة الأرضية الأوراسية ببقية العالم تعود إلى الظهور. وبدلاً من محاربة الجغرافيا القديمة الجديدة، ينبغي على الدول الحرة، مثل مجموعة الدول السبع الكبرى، أن تدفع العالم إلى الأمام؛ ففي النهاية، سيستفيد الجميع من منع انزلاق العالم إلى ممارسات الإمبريالية أو الانعزالية القديمة الوحشية.
 
  
 



