معركة النفوذ بين الصواريخ البالستية والمقاتلات الحربية
بقلم : أحمد المعمري
هذه أول حرب يباغت بها الكيان دولة أخرى بحرب منذ حرب ٦٧، التي مر عليها أكثر من خمسين عاما، ومما يزيد الأمر غرابة وصعوبة بالنسبة لهذه المعركة، إنها تعد أول معركة حديثة بين قوتين غير جارتين لا تستخدمان السلاح البري أو البحري للوصول للطرف الثاني، رغم استمرارها وقوة تأثيرها! وهذا دليل على تطور الحروب المستقبلية التي بات يمثل فيها السلاح البعيد المدى أهم أركانها، وأهم من ذلك استخدام تقنيات الجيل الخامس من الحروب الهجينة المعتمدة على التجسس التقني والحرب السيبرانية وتحريك الأطراف الداخلية بشكل رئيسي، مما يمكنهم من اختراق عميق للأنظمة، وضرب مرافقها وقياداتها بسهولة، وتعتبر هذه الحرب خير مثال على هذا النوع من الحروب التي قدرت فيه مخابرات الكيان على تصفية الصفوف الأولى من أعدئها، وضرب قدراتها في مقتل بحربين متتاليتين، ولم تقدر على هذا مع أهل غزة واليمن بسبب استخدامهم للطرق البدائية للتواصل التي يصعب اختراقها معلوماتيا، وهذا يؤكد مما لا شك فيه إن الجوالات والفضاء المفتوح يعد اليوم من أهم مصادر التجسس، ويمكن للمراكز تحليل مليارات البيانات والصور والفيديوهات والاتصالات بسهولة مع ظهور الذكاء الصناعي، الذي أصبح قادرا على التمييز بين الغث والسمين، “ويمكن القول إن نجاح الحروب التي تشن اليوم ومستقبلا، سوف يفوز بها الجانب الذي يتقن حرب المعلوماتية والتجسس على الاتصالات”، وهذه سابقة خطيرة تضاف ضمن مهددات الأمن القومي التي يجب أن تراجع بشكل عاجل من قبل دولنا.
الكيان المحتل يعيش الآن زهو الانتصارات التي حققها في غزة واللبنان وسوريا، وضمن بكل ما فعله وجود أمة ممزقة وعاجزة حتى عن إدخال كيس طحين واحد لغزة دون إذن عدوها، وقد أُوصلنا لهذا الواقع بتخطيط عميق طويل الأجل، مستغلين عصبية وجهل أغلب القادة والمفكرين والعلماء الذين لا يفقهون ليومنا هذا فقه التعايش، وكيفية التنظير الاستراتيجي التدريجي لهذه الأمة، وقد أشار لهذا العمل نتنياهو بقوله: “بعد قيام إسرائيل واجهنا عالما عربيا موحدا وفرقناه بالتدريج”، وكما قالت العرب قديما: “فرّق، تسد”، فوصلنا لحالة من الضعف أن أصبحت فيها بعض الدول تسابق في تغيير مظلتها الاستراتيجية من الدول الخمس الكبرى إلى الكيان الغاصب الاستعماري بالمنطقة، تسليما منهم لها كقوة إقليمية أولى، ومستبقين رضاها لو توسعت ووصلت لدرجة العظمى! وهذا ما جعل زعيمهم يصرح بغرور أكثر من مرة: “إننا سنعيد هندسة الشرق الأوسط” بما يناسبنا، وكأننا دول لا قيمة لها ولا وزن، حتى نصل لحالة يصير بها وكيل المستعمرين بنفسه قادرا على تنصيب من يريد، وتشكيل الدول كيفما يريد، وحرب من يريد!
إن تصريح الدول المارقة بدأ بالظهور بقوة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، حين استفردت أمريكا بالعالم، وأرادت من جميع الدول أن تسير في فلكها حيثما تريد، حتى في أخلاقها وثقافتها وقيمها كما في تعريف الأمن القومي الذي أقره أوباما، ويعدّ القذافي وصدام وعلي عبد الله صالح وبشار والبشير وخامنئي ضمن رؤساء هذه الدول المارقة، فأُسقط الجميع بطرق مختلفة، واستعصى الأخير عن تفكيك دولته داخليا رغم المحاولات المتكررة والإعلام الممول، فانتقلوا مضطرين لمحاولة إسقاطه حاليا بعملية جراحية سريعة، لذلك راهن الكيان على قدرته بنفسه على ضرب قوة إيران، ليعيشوا زهو العلو الكبير إن نجحوا دون تدخل الأمريكان المباشر، لكي ترتجف أرجل بقية قادة المنطقة جراء إخضاع أكبر الدول الإقليمية بعمل منفرد، فأكثر من هم بالمنطقة أقل منها قوةً وسطوةً وجغرافيًا وديموغرافيًا، وكما قيل: “إياك أعني، واسمعي يا جارة”، ليسلم إليها البقية بالطاعة دون أمريكا مذعنين، لتكون حاكمة الشرق الأوسط، تقضي في الأبشار والأمصار بما تريد، وهذا على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي قال مهددا ومتوعدا إياهم: “إنه لا يوجد مكان في الشرق الأوسط لن تصل إليه ذراع إسرائيل الطويلة.”، ولكن الله شاء أن تبددت هذه العنجهية بطلبهم المتواصل من أمريكا بالتدخل العاجل لقصف مجمع فوردو، وحتى في المناطق التي زعم الكيان إنه دمرها في أصفهان ونطنز، فضلا عن مساعدة العديد من الدول الكبرى والإقليمية له بشكل مباشر وغير مباشر، كمساعدة قبرص في احتضان أصوله الجوية، وفتح أذريبجان شمالا أجواءها وحدودها له لانطلاق شبكة عملائه وطائراته بدون طيار.
لم تستطع إيران أن ترد بـ50% مما قصفت به مصالحها، وهذه النسبة كافية لكي تعادل إيران مستوى الردع مع الكيان بسبب صغر مساحته الجغرافية، لكنها آثرت امتصاص هذه الضربات لكي تبقي على دولتها، وأستطيع تفهّم هذه الرؤية بسبب عدم وجود وطن قومي للفرس غير إيران، ولكن ليس هناك أي ضمانة أنهم بعد التوقف هذا أن لا يستبيحوا سماءك بسبب الضعف الذي أبديته، وقد لا يمكنوك من بناء مضادات جوية مجددا تهدد عملهم الجوي، أو أن تبني مفاعلاتك النووية، وقد يكرون عليك مرة أخرى بعد أن تصاب بالوهن جراء ما فعلوه مثلما حدث لصدام حسين حين تركوه لعام ٢٠٠٣، وهذا مرده لتفوق الإيرانيين بالعمل السياسي أكثر من العمل العسكري، وهذا واضح في تأخيرهم لهذه الضربة منذ عهد بوش للآن بالمفاوضات، رغم إن قطاعهم العسكري لا يساوي طموحهم المنشود، فقد أثبتت المقاتلات المتقدمة بشكل كاسح إنها تتفوق على الصواريخ البالستية في التعامل مع مختلف الأهداف المراد قصفها، كضرب المنشآت المحصنة تماما، وإصابة الأهداف البحرية والجوية، وأقدر منها بسبب مستشعراتها السلبية على تتبع وإخماد الدفاعات الجوية، والقدرة على البقاء في الجو انتظارا للتدخل السريع لأي بنك أهداف فوري يظهر لهم، ويمكن استعمالها كطائرات تجسس وتتبع كأواكس مصغرة مثلما هي طائرة أف ٣٥، مقابل ما يفعله الصاروخ البالستي من تدمير نقطي للأماكن الثابتة، أو تدمير المناطق المكتظة لإثارة الرعب، ولكن تحديات الوصول للهدف تبقى قائمة، وتحديث أماكن بنك الأهداف المتحركة يحتاج لجهود جبارة أخرى عادة لا تملكها هذه الدول، والتجربة التركية لتقوية الجانب العسكري أفضل من مثيلاتها في المنطقة، فإن تطوير قوة نووية قبل أن تملك زمام التكنلوجيا التقليدية بات يعد انتحارا، فيجب أن يكون الطموح السياسي موازيا للقوة التي تمتلكها.