البطانة الطالحة
بقلم: مسلم بن احمد العوائد
تمرّ الحضارات والدول عبر التاريخ بمراحل مختلفة، من القوة والنمو والازدهار، و من الضعف والانحدار والخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية والتاريخية، وهذه سنّة الله في خلقه، فالأيام دول، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. يومٌ لك ويومٌ عليك، وكل ذلك نتيجة لأعمال الناس وأفعالهم.
ومن الدروس المستفادة من التاريخ في هذا السياق، ان الفساد والكساد يعمّان ويتعاظمان عندما يهيمن بعض المقربين من أصحاب النفوس الخبيثة — أي البطانة الطالحة — على أصحاب القرار، مستغلين مرضهم، أو كبر سنهم، أو ضعف شخصياتهم، او على علاقاتهم الاجتماعية، فيدفعونهم إلى اتخاذ قرارات تُنفّر الناس منهم، من خلال مقترحات وإجراءات وسياسات تهدف إلى التضييق على الناس في معيشتهم، وتجارتهم، وحرياتهم، بل وحتى في عقائدهم. عندها يعمّ الفساد، ويستشري الظلم، ويُقصى القادة المخلصون، ويُستبدَلون بأتباع المصالح والسلطة. هنا يُنتزع الولاء والانتماء من قلوب وعقول الناس، فينفرون ويكرهون صاحب القرار، بل ويتمنون تغييره.
هذا قبل…
امابعد…
سقطت بغداد، عاصمة الدولة الإسلامية، على يد التتار، بعد حوالي خمسة قرون من الفتوحات و الازدهار العلمي والإقتصادي والاجتماعي والثقافي والقوة السياسية والعسكرية. وقد وقعت هذه الكارثة بعد أن استغل وزير الخليفة العباسي المستعصم المقرب ابن العلقمي، ضعف شخصية الخليفة، فأقنعه باتخاذ إجراءات خطيرة كرّهت الناس في الخليفة، وضيّقت عليهم في حرياتهم وتجارتهم ودينهم، وذلك بعد ان شكل حوله – لوبي او ما يسمى اصطلاحا بالدولة العميقة – حجب الخليفة من الاستماع إلى المخلصين المصلحين و الناصحين.
قال الزركلي عن ابن العلقمي:
“وزير المستعصم العباسي، وصاحب الجريمة النكراء في ممالأة هولاكو على غزو بغداد، وثق به المستعصم، فألقى إليه زمام أموره.”.
اخيرا…
ركن المستعصم، إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحرث والنسل، وحسَّن له جمع الأموال، والاقتصار على بعض العساكر، وقطع الأكثر، فوافقه على ذلك… وابن العلقمي يلعب به كيف أراد، ولا يُطلِعه على الأخبار، وإذا جاءته نصيحة في السر أطلع عليها ابن العلقمي، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً”. ( الذهبي رحمه الله).
يذكر أهل الاختصاص أنه لا يكاد يخلو عصر أو دولة او نظام من نماذج “ابن العلقمي”، تلك البطانة الفاسدة التي تستغل ضعف المسؤول أو شيخوخته او مرضه او اية ظروف اخرى، لتحقيق مصالحها الشخصية، ولو كان ذلك على حساب الأمانة والدين، ومصلحة الوطن، بل وحتى الجغرافيا. ويُقال إن هذا الأسلوب هو نهج بعض القوى العالمية، التي تعمل من خلال بطانة فاسدة، توجهها لتنفير وتكريه الشعوب من قادتهم، لتزرع في النفوس افكار دخيلة وخطيرة، وتنزع منهم عقيدة الولاء والانتماء وتمهد الناس لمرحلة جديدة.
ختاما..
من اخطر النصائح التي اقنع بها العلقمي الخليفة، ماذكره ابن كثير: “وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف”. وهنا نجحت البطانة الفاسدة في تنفير وتكريه الناس من الخليفة، عبر السياسات الخانقة لهم في المعيشة والتجارة والحرية والاقصاء، حتى أصبحت الدولة مستباحة، وانكشفت أمام العدو، فكانت النتيجة جريمة نكراء، وهزيمة كبرى لحضارة امتدت لقرون، بسبب بطانة فاسدة سيطرت على المسؤول ، فزيفت له الحقائق، وأبعدت عنه اهل الإصلاح، واسكتت الاصوات التي تعتقد شرعا بعدم جواز الخروج على ولاة الامر.
كانت خزائن الدولة والسلطة و النظام بيد العلقمي، إلا ان ذلك لم يمنعه من خيانة الأمانة، بل وقاد الدولة واهلها وسلطانها الى الذل والقهر والموت.
فهل من معتبر؟.
قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.