كيف يتم بناء الأفضلية العسكرية لأوكرانيا في مواجهة روسيا؟

وهج الخليج ـ وكالات
لم تعد الحروب الحديثة تحسم بالقوة التقليدية وحدها، بل بسرعة التكيف وكفاءة الإنتاج وذكاء توظيف التكنولوجيا. وفي مواجهة خصم أكبر وأفضل تجهيزا، يصبح بناء تفوق نوعي مستدام شرطا أساسيا لبقاء أوكرانيا وردع خصومها. هذا ما أكد عليه الباحث ماكسيم سكريبشينكو، رئيس مركز “الحوارات عبر الأطلسي” والخبير في شؤون أوروبا الشرقية والأمن القومي الأوكراني والحرب الروسية على أوكرانيا، في تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنتريست” الأمريكية.
ويقول سكريبشينكو إن الحرب في أوكرانيا أدت إلى انهيار دورة الحياة التكنولوجية في ميدان القتال. ففي عام 2022، كان يمكن لأداة أو نظام جديد أن يصمد موسما كاملا قبل أن يتكيف الخصم معه. وبحلول منتصف عام 2025، تقلصت هذه الدورة إلى أسابيع فقط. فالطرف الذي يبتكر بوتيرة أسرع وينتج بأقل كلفة هو من يمتلك الأفضلية. أما الجيوش التي تنتظر سنوات للحصول على أنظمة “مثالية”، فتجدها قد أصبحت متقادمة عند وصولها أخيرا إلى خطوط المواجهة.
وتواجه أوكرانيا اليوم مهمة مزدوجة، فعليها أن تنتج أسلحة ميسورة الكلفة وعلى نطاق واسع الآن، وأن تبني في الوقت نفسه تفوقا نوعيا دائما للسنوات المقبلة. وكلا الأمرين ضروري للبقاء، ولتحقيق ردع طويل الأمد. وتهيمن الطائرات المسيرة على الجبهة. وحولت أسراب من أنظمة الاستطلاع والهجوم مساحات واسعة من خطوط القتال إلى مناطق قتل يصبح فيها التحرك محفوفا بالمخاطر. وباتت الطائرات المسيرة الموجهة بالألياف الضوئية، التي تكاد تكون محصنة ضد التشويش، قادرة على الوصول إلى عمق كبير خلف خطوط العدو. ويقدر محللون أن الطائرات المسيرة الصغيرة مسؤولة عن معظم خسائر المعدات الروسية المؤكدة بصريا. وفي المقابل، تكافح أنظمة الدفاع الجوي التقليدية، المعتمدة على صواريخ باهظة الثمن، لمجاراة هذا الإيقاع وهذا الحجم. ويميل منحنى الكلفة لصالح من يستطيع البناء والتكيف والاستبدال بسرعة.
ويرى سكريبشينكو أن هذه ليست مشكلة أوكرانية فحسب، بل عالمية. فخلال تبادل الضربات بين إيران وإسرائيل في منتصف عام 2025، استخدمت القوات الأمريكية ما يقرب من سُبع المخزون الوطني من صواريخ الاعتراض عالية المستوى خلال أقل من أسبوعين. وستستغرق إعادة تعويض هذه المخزونات سنوات، وباتت حسابات المخزون اليوم قيدا استراتيجيا. ويقول سكريبشينكو إن الكم مهم، لكنه وحده لن يحسم المعركة، فروسيا تزيد إنتاجها وتتكيف. وقطاع الدفاع الأوكراني ينمو، لكنه لا يستطيع مجاراة موسكو في كل الفئات. ويكمن الحل في الجمع بين القدرة الصناعية الواسعة والتحول الذي يغير معادلة الكلفة. ويشمل هذا التحول وسائل اعتراض أرخص ووسائل تحكم آلي أذكى وتكاملا أوثق بين أجهزة الاستشعار ومنصات الإطلاق وأنظمة القيادة.
يشير ذلك إلى نموذج أثبت نجاحه في أماكن أخرى. فتحتاج أوكرانيا وحلفاؤها إلى تفوق عسكري نوعي قائم على التحالف. وقد تبلورت فكرة التفوق العسكري النوعي في السياسة الأمريكية-الإسرائيلية بعد حربي عامي 1967 و1973، عندما واجهت إسرائيل خصوما أكبر عددا. وقبل أن تكرس هذه الفكرة في القانون، كانت مطبقة عمليا من خلال عادات راسخة من التعاون، مثل التطوير المشترك والتحديثات السريعة والوصول التفضيلي إلى الأنظمة المتقدمة.
وأسهمت برامج الدفاع الصاروخي المشتركة، مثل القبة الحديدية ومقلاع داود وآرو (السهم)، إلى جانب القيادة المندمجة والتحديثات البرمجية المتكررة، في إحباط موجات متكررة من الهجمات الصاروخية، ومنحت صناع القرار وقتا ثمينا للمناورة واتخاذ القرار. ويرى سكريبشينكو أن الدرس هنا دفاعي وعملي في آن واحد، حيث ان التحديث المنتظم والمتوقّع لتفوق متكامل ينجح حتى قبل أن يُقنن رسميا. وبالنسبة لأوكرانيا، يمكن لتفوق نوعي مؤسسي قائم على تحالف أن يكون أكثر فاعلية. ويقول سكريبشينكو إن التفوق العسكري النوعي القائم على التحالف سيؤدي ثلاثة أدوار رئيسية.
• أولا، يضمن الإمداد في الوقت المناسب من خلال مواءمة الإنتاج الأمريكي والأوروبي مع الاحتياجات الأوكرانية، بما في ذلك الإنتاج المشترك داخل أوكرانيا.
• ثانيا، يحافظ على حداثة التفوق النوعي لأوكرانيا عبر تمويل تحديثات دورية لأجهزة الاستشعار والبرمجيات وأدوات مكافحة المسيرات، بدلا من ملاحقة “حلول سحرية” لمرة واحدة.
• ثالثا، يرسخ كل ذلك في التزام سياسي يتجاوز الدورات الانتخابية.
بالنسبة لأوكرانيا، الأولويات واضحة وهي: تثبيت الإنتاج الكمي الآن. ويجب أن تقترن خطة أوكرانيا لإنتاج أعداد كبيرة من طائرات “إف بي في” المسيرة في عام 2026 بتمويل تحالفي لهياكل الطائرات والذخائر ومجموعات الملاحة التي يصعب التشويش عليها. والأمر الثاني هو استغلال ميزة الكلفة. فالطائرات المسيرة بعيدة المدى التي لا تتجاوز كلفتها عشرات الآلاف من الدولارات قادرة على ضرب مصافي النفط والقواعد الجوية والدفاعات الجوية في عمق روسيا، في حين تتجاوز كلفة صواريخ كروز مليون دولار. ومن ثم يتم الحفاظ على الضغط بكلفة معقولة.
الأمر الثالث هو تحصين “الميل الأخير” بتوسيع نطاق نيران مكافحة المسيرات منخفضة الكلفة والصمامات الذكية لحماية الخنادق والمستودعات والجسور ومحطات التحويل الكهربائي، مع الاحتفاظ بالاعتراضات الباهظة للتهديدات الباليستية والجوالة.
• رابعا، نشر منظومات دفاعية جديدة في المواقع التي تحقق فيها أعلى فاعلية، وذلك عبر نشر وسائل الاعتراض من الجيل التالي، وعند اكتمال نضج تقنيات الطاقة الموجهة، في المواقع الثابتة مثل المدن ومحطات الطاقة والمطارات، ودمجها مع قدرات الحرب الإلكترونية وأنظمة المدافع الآلية، بما يوفر دفاعا طبقيا متكاملا وذا كلفة منخفضة.
• وأخيرا، بناء القدرة على الصمود حول المواقع الحيوية. وتضمن الشبكات الكهربائية المصغرة والطاقة الاحتياطية المحلية والاتصالات المحمية استمرار عمل المصانع ومراكز القيادة والقواعد الجوية أثناء الضربات. وينبغي التعامل مع الطاقة والبرمجيات بوصفهما جزءا من أدوات الدفاع.
أما بالنسبة للحلفاء، فينبغي تأطير دعم التفوق العسكري النوعي لأوكرانيا بوصفه اتفاقا عبر أطلسي. وتوفر الولايات المتحدة التقنيات الأساسية وموافقات التصدير والاختبارات المشتركة، فيما تتحمل أوروبا وأوكرانيا الجزء الأكبر من التمويل، وتوسعان الإنتاج المشترك للمحركات والبصريات والرادارات والإلكترونيات، وتكفلان مشتريات متعددة السنوات تمنح الصناعة طلبا متوقعا ومستقرا. وتضمن الأهداف القابلة للقياس نزاهة الشراكة، من حجم إنتاج المسيرات شهريا، ومعدلات تعويض صواريخ الاعتراض، وفترات تعطل البنية التحتية الحيوية، والوقت اللازم لإدخال التحديثات إلى الخدمة. وبحسب سكريبشينكو، لن تحل الأنظمة الجديدة محل الدفاعات التقليدية بين ليلة وضحاها. فعلى سبيل المثال، لا تزال النماذج المبكرة لأسلحة الليزر تعاني قيودا في الطقس السيئ أو الغبار الكثيف. غير أن الدفاعات الذكية منخفضة الكلفة ووسائل التحكم الآلي يمكن نشرها الآن وتحسينها سريعا عبر البرمجيات. وتمثل قاعدة الابتكار الأوكرانية في زمن الحرب ساحة اختبار مثالية، وستعود الدروس المستفادة منها بالفائدة على التحالف الأوسع نطاقا. ويرى سكريبشينكو في ختام تحليله أنه مع احتدام النقاش في الولايات المتحدة وأوروبا حول الضمانات الأمنية لأوكرانيا، يجب أن تضمن أي صيغة صيغة ستخرج إلى النور تفوقا عسكريا نوعيا تحالفيا بوصفه الأساس. وينبغي تمويله، وتحديثه وفق جدول زمني، وقياسه وفق معايير واضحة. وبهذه الطريقة تتحول المساعدة قصيرة الأمد إلى ردع طويل الأمد.




