منوعات

أكثر القضايا تعقيدا في القانون الدولي .. لماذا لا يمكن أن يظل وضع تايوان غير محدد؟

وهج الخليج – وكالات

تعد تايوان واحدة من أكثر القضايا تعقيدا في القانون الدولي، حيث تتصارع الرواية الصينية التي تؤكد سيادتها التاريخية مع واقع سياسي وقانوني نشأ بعد الحرب العالمية الثانية ترك الجزيرة في حالة غموض فيما يتعلق بوضعها السيادي. هذا الغموض لم يعد مجرد جدل قانوني، بل أصبح فتيلا لتوترات عسكرية قد تشعل حربا إقليمية. هذا ما أكده الباحث بول هير، وهو باحث أول في “مجلس شيكاغو للشؤون العالمية” وضابط استخبارات وطني سابق لمنطقة شرق آسيا، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الامريكية.
ويقول هير إن التوترات المتصاعدة مؤخرا بين اليابان والصين أدت إلى إحياء وتكثيف جدل أزلي حول الوضع القانوني الدولي لتايوان. فقد أثارت رئيسة الوزراء اليابانية، ساناي تاكايتشي، ردا صاخبا من بكين عندما صرحت علنا في أوائل نوفمبر بأن استخدام الصين للقوة ضد تايوان يمكن اعتباره “وضعا يهدد بقاء اليابان”، وهو ما يعني ضمنا احتمالية تدخل عسكري ياباني. ومنذ ذلك الحين، طالب الصينيون تاكايتشي بالتراجع عن تصريحاتها، مصرين على أن قضية تايوان هي شأن صيني داخلي لا يحق لأي دولة أجنبية التدخل فيه، وأن تاكايتشي قد انتهكت القبول الياباني المسبق لفكرة أن تايوان جزء من الصين. وفي محادثة لاحقة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تهدف بلا شك إلى دفع ترامب للضغط على تاكايتشي للتراجع، صرح الرئيس الصيني شي جين بينج بأن “عودة تايوان إلى الصين (بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية) هي جزء لا يتجزأ من النظام الدولي لما بعد الحرب”. ويرى هير أن فهم سياق وأهمية هذه الواقعة وتصريح “شي” يتطلب استحضارا موجزا لدروس التاريخ، فقد ضُمت تايوان إلى الإمبراطورية الصينية في القرن السابع عشر، لكن الأباطرة لم يولوها سوى اهتمام متقطع، وواجهوا عادة صعوبة في ممارسة سيطرة كاملة عليها. ولم تصنف تايوان كـ “إقليم صيني” إلا في عام 1887.
وبعد ذلك بوقت قصير، ضمتها اليابان واستعمرتها في أعقاب الحرب الصينية اليابانية (1894–1895). وبينما كانت تايوان تحت السيطرة اليابانية، انهارت الإمبراطورية الصينية، وتأسست “جمهورية الصين” في عام 1912. غير أن البر الرئيسي للصين انزلق بعد ذلك إلى أتون حرب أهلية متقطعة بين “القوميين” (جمهورية الصين) و”الشيوعيين”، وهي الحرب التي توقفت مؤقتا بسبب أحداث الحرب العالمية الثانية. وخلال الحرب، كانت الولايات المتحدة متحالفة مع “جمهورية الصين” ضد اليابان. وفي نوفمبر 1943، وضع معيار حاسم حينما أصدر فرانكلين روزفلت، ووينستون تشرشل، وزعيم جمهورية الصين “تشيانج كاي شيك” ما عُرف بـ “إعلان القاهرة”، الذي نص على أن “جميع الأراضي التي سرقتها اليابان من الصينيين”، بما فيها تايوان، ستُعاد إلى “جمهورية الصين” بعد الحرب. وهو ما أكده القادة الثلاثة مجددا في “إعلان بوتسدام” في يوليو 1945. وهذا هو الأساس الذي استند إليه “شي جين بينج” في تصريحه لترامب بأن “عودة تايوان إلى الصين” كانت جزءا أصيلا من نظام ما بعد الحرب.
ولكن، سرعان ما تبدلت المعطيات، إذ استؤنفت الحرب الأهلية الصينية وانتصر فيها الشيوعيون، مؤسسين “جمهورية الصين الشعبية” في عام 1949. وفر القوميون إلى تايوان وأبقوا على “جمهورية الصين” هناك كحكومة صينية منافسة، ظلت تحظى باعتراف الولايات المتحدة واليابان آنذاك. ورغم إجبار اليابان على التنازل عن ادعاءاتها بالسيادة على تايوان، وقبول جمهورية الصين لاستسلام اليابان في الجزيرة نيابة عن الولايات المتحدة وحلفائها، لم تنقل السيادة على تايوان رسميا أبدا إلى أي قوة. وعندما اندلعت الحرب الكورية في عام 1950، أعلن الرئيس “ترومان” أن “تحديد الوضع المستقبلي لتايوان يجب أن ينتظر استعادة الأمن في المحيط الهادئ، أو تسوية سلمية مع اليابان، أو النظر فيه من قبل الأمم المتحدة”. وكان هذا جزءا من الأساس الذي استندت إليه الرؤية المعاصرة القائلة بأن وضع تايوان لا يزال “غير محدد”.
ويقول هير إنه بالعودة إلى الوضع الراهن، نادرا ما يتطرق دعاة “الوضع غير المحدد” لتايوان إلى مسألة “من” أو “ما” الذي سيحدد الأمر في نهاية المطاف، وتحت أي ظروف. وكما ذُكر للتو، قدم الرئيس الأمريكي الراحل هاري ترومان في عام 1950 ثلاثة خيارات، ويمكن القول إن “الأمن في المحيط الهادئ” قد استعيد بموجب الهدنة الكورية، لكن ذلك لم يفض إلى أي قرار رسمي بشأن وضع تايوان.
أما معاهدة السلام مع اليابان، الموقعة في سان فرانسيسكو عام 1952، فقد أكدت تنازل طوكيو عن سيادتها على تايوان، لكنها لم تنقلها رسميا إلى جمهورية الصين أو أي كيان آخر، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الحرب الأهلية الصينية لم تكن قد حسمت بعد، ولأن الدول الأخرى كانت لا تزال تدرس كيفية التعامل مع حكومتين صينيتين متنافستين. ويقول هير إنه من المثير للاهتمام أن فشل الموقعين على المعاهدة، والتي لم تشمل أيا من النظامين الصينيين، في تعيين السيادة على تايوان كان مدفوعا بنقص الثقة في “تشيانج كاي شيك” بقدر رغبتهم في عدم إضعافه عبر منح تايوان لجمهورية الصين الشعبية.
وهكذا، لم يتبق سوى خيار ترومان المتمثل في “النظر من قبل الأمم المتحدة”، والتي اتخذت قرارا جزئيا بشأن وضع تايوان في عام 1971 لكنها لم تحسمه بالكامل. فقد قضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758، المعنون “استعادة الحقوق المشروعة لجمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة”، بطرد “جمهورية الصين” من المنظمة ونقل مقعدها إلى “جمهورية الصين الشعبية”. ورغم إصرار بكين على أن هذا القرار يمثل اعترافا أمميا بأن تايوان جزء من الصين (وبالتالي جزء من جمهورية الصين الشعبية)، لم يتضمن القرار أي بيان أو حكم من هذا القبيل. ومع ذلك، لا يزال العديد من مؤيدي تايوان يعتقدون (أو يأملون) بأن الأمم المتحدة قد تلعب دورا في تحديد الوضع القانوني لتايوان عبر استحضار مبدأ “تقرير المصير” المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، وربما من خلال تنظيم استفتاء شعبي في تايوان.
ويرى هير أن ثمة عقبات عدة تحول دون ذلك، من أبرزها حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به بكين في مجلس الأمن الدولي، فضلا عن عدم رغبة العديد من الدول، على الأرجح، في استعداء الصين عبر دعم استفتاء من هذا النوع، أو تأييد أي تحرك أممي بشأن تايوان تعارضه بكين. ولعل الأهم من ذلك هو أن أغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تؤيد “مبدأ الصين الواحدة” الذي تتبناه بكين، والذي ينص على أن جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة القانونية الوحيدة التي تمثل الصين، وأن تايوان “جزء لا يتجزأ منها”. علاوة على ذلك، تبدو الدول القليلة التي لا تتبنى “مبدأ الصين الواحدة” بشكل كامل غير مستعدة لتحديه علانية. وبناء على ذلك، فإنه من المشكوك فيه أن تقوم الأمم المتحدة بأي دور في تحديد وضع تايوان بأي طريقة تعارضها بكين.
ويخلص هير إلى أن هذا يعيدنا مجددا إلى سؤال، من وما الذي يمكنه “تحديد” وضع تايوان؟ وإلى معضلة خاصة تواجهها واشنطن وطوكيو في أعقاب تلميح “تاكايتشي” إلى تدخل عسكري ياباني محتمل في تايوان. فرغم أن كلاً من الولايات المتحدة واليابان ترفضان “مبدأ الصين الواحدة” الذي تفرضه بكين، وتتبنيان صوريا المفهوم القائل بأن وضع تايوان “غير محدد”، لا يتسق هذا مع مواقفهما التاريخية السابقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى