المقالات

متى تتحول معارفنا من ظاهرة صوتية موقوتة إلى صناعة ذات قيمة ؟

د.رجب العويسي

متى تتحول معارفنا من ظاهرة صوتية موقوتة إلى صناعة ذات قيمة ؟

هل نعيش أزمة صناعة المعرفة؟، وهل ما نقوم به يدخل ضمن المعرفة الاستهلاكية، التي قد لا تثري الواقع بقوة وجودها، أو تؤطر مساراته بدقة تشخيصها، أو تبني أعمدته بمتانة فلسفتها؟، ثم هل نحن بحاجة إلى إعادة صياغة البناء الفكري للأجيال عبر رسم خريطة التنمية الذاتية والقراءة ومفهوم حرية الفكر النوعي المقنن الذي يضمن تحويل هذا الثراء المعرفي كقيمة مضافة لها حضور الفعلي في استراتيجيات التنمية البشرية؟، تساؤلات تطرح بقوة في ظل تسارع المعرفة، وتلقي بظلالها على طريقة تعاطينا معها وآلية بنائها في ذواتنا، ومستوى قناعتنا بمصادرها الحالية، وما إذا كان بديل المنتج المعرفي قادر على صياغة لحن جديد يضمن آليات وموجهات متجددة في طريقة تعاملنا مع شبكات التواصل الاجتماعي، التي تواجه هي الأخرى حملة انتهاك حقوقها وضعف استثمارها بالشكل الذي يضمن صلاح حياتنا وأمن أوطاننا، وفي كل الأحداث والمواقف اليومية يتكرر الحال، كتب ومجلدات وشعر ونثر، ومقالات وتقارير، وقصص قصيرة ومطولات ومدونات، وفكاهات ونكت، ودروس وتحليلات، وحقائق وأمثلة ونماذج، واحصائيات وأرقام، وفتاوى وآراء وغيرها كثير، تؤلف في وصف الحال، ولكنه وصف لا يتعدى في أغلب أحواله كونه ” ظاهرة صوتية موقوتة ” تفتقر إلى التوازن والحكمة التي نستلهم منها أبجديات الحياة الراقية ومفردات التنمية الواعدة، حتى أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي والفضاءات المفتوحة في نظر البعض مرتبطة بأزمة المعرفة والقيم والأخلاق، وسلوك العداء والتشدد الديني، وطريق الفوضى والثورات وخراب البيوت وضياع الأوطان، وأغلب البحوث والمقالات والتحليلات في منظومتنا العربية، تضعها في القائمة السوداء، وأنها لعبة عالمية تستهدف الهوية والعقيدة والشباب والتنمية وترويج للفساد والشائعات، مع محاولة إقصاء كل المضامين الايجابية منها، من كونها داعمة للتنمية والسلام والأمن والوئام الإنساني والتوافق الأسري، لذلك كانت بحاجة إلى مزيد من التوجيه والتقنين لها، وإعادة صياغتها في ثوب الرصانة والقوة.
من هنا شكل الدور النشط لشبكات التواصل الاجتماعي، ومساحة الحرية في التعبير والرأي، وفرص بروز المواهب، وأريحية الاختيار من بين بدائلها المتنوعة، ما بين تغريدات وكتابات ووجهات نظر وتعقيبات وتعليقات وإعادة تأكيد لمعلومة أو نشرها؛ رصيدا معرفيا، يضعنا أمام رصد لمستوى المرونة والجدية التي يمنحها الإنسان لنفسه في القراءة والتعبير عن أفكاره، ونقل المعرفة من الانا إلى الاخر، وضبط الكلمة وفق مسارات الصدق والأمانة والموضوعية، بما يكيفه مع طبيعة الحياة السامية فوق مساوئ الاشاعة وخطر الاستئثار بالرأي وإقصاء الآخر، وتأكيد تواصله مع البناء الفكري البشري، واحترامه للاختلاف وإدراكه لقيمة ذلك في تنوع مداركه واتساع أبواب الأمل لديه، وتعميق فكره في صناعة بدائل وسيناريوهات ومعالجات للوصول إلى رأي يتوافق مع منظور العقل والنقل ويحترم الوجدان ويراعي المشاعر ويمنح مساحات أوسع للذوق وتذوق المعرفة، مما يعني قراءة معمقة تأخذ في الاعتبار العوامل المساندة له في الوصول إلى مفهوم أعمق للمعرفة الاستراتيجية، ومستوى الدعم المقدم للفرد على مستوى البيت والمؤسسة والمدرسة والجامعة، ومدى توفر مؤسسات الابتكار وصناعة القادة، ومراكز العلم والمعرفة التي تشجع الابداع، وتعدد المكتبات، والمراكز الثقافية، واللقاءات والمناظرات العلمية، والحوارات التواصلية، والشبكات المهنية.

وعود على بدء فإننا في وطن يمتلك ذاكرة حضارية ثرية، وثقافة ضاربة في جذور التأريخ، وهي ليست ثقافة مبنية على الصدف؛ بل امتلكت أدوات رصينة ومنهجيات عالية الدقة في توجيه بوصلة العالم والتعامل مع أحداثه ، يدير حركتها إنسان هذا الوطن، الذي ولد وهو يبدع ويبتكر ويتعلم، ليستمر في إبداعه، ينتج فكرا وموردا ثريا من المعرفة والعلم، مع فرص التدريب والتعليم الجيد، وهو يضعنا أمام مسؤولية البحث في نهضة المعرفة لديه، بحسن توجيهها لخدمته، وتيسيرها لتقود مسيرة عطائه، لنترك له مجال البحث والدخول في أعماقها واكتشاف إعجازها، مددا يعزز حضارة الوعي لديه، ويبني رغبة التقدم والإبهار في ذاته، بعد أن أسّسنا فيه منهجية العمل، وحددنا له خطوات الانجاز ورسمنا له أطر المعرفة المعتدلة المتوازنة التي تتعايش مع المؤتلف الإنساني وتتفاعل مع المشترك القيمي، وتجد في منظومة القيم والاخلاق طريقها لضمان قدرته على المساهمة في توليد الجمال، وصناعة التقدم وتوفير البدائل وترقية قيمة التنمية، واحترام إنجاز الدولة، وتقدير جهود المؤسسات، وإدراك عظمة الأمن، وتأثير الإشاعة، وخطر الكلمة عندما تنال من حق الأوطان، أو تتعارض مع منهج الوحدة والتكامل، أو تحاول أن تجد في ضعف ضمير الممارسة سبيلها لتجاوز القانون، بدعوى الحرية وبقصد إثارة الرأي العام ، وما الثقافة السلبية وحالات الاحباط والتذمر والسخط والتهجم والأحكام المسبقة والاشاعة التي يمارسها البعض، إلا ضربا من جنون هذه الظاهرة الصوتية، التي باتت تسيء إلى الإنسان نفسه، وتنذر بخراب الديار والأوطان، عبر غسل عقول الشباب بأفكار بائسة، وحماقات تحاول أن تجد لصنيعها من يصفق لها بدافع الشهرة وحماية الحقوق، فضلّت وأضلّت، فإن تكامل الجهود في توظيف هذا الثراء المعرفي الإنساني، منطلق لجعل المعرفة صناعة ذات قيمة مرتبطة بالغايات والأهداف الوطنية العليا، وعبرها يمكننا الدخول في منافسات متكافئة قادرة على مشاركة العالم صناعة التطور، وتوليد أفضل البدائل وأنجعها، وبناء أنماط التجديد والتطوير التي تحتاجها الإنسانية ، عبر ضبط مسارات المعرفة بضابط القيم والأخلاق والهوية والخصوصية من غير ضرر بمصالح الشعوب ونهضتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى