المقالات

نفوق القيم.. إلى أين يتجه بالعالم؟

د. رجب العويسي

ينطلق مقالنا من محاولة رسم صورة العالم بعد نفوق القيم، ، والإطار الذي يمكن خلاله مراجعة حساباته، في فهم منظومة القيم المشتركة، وتوظيفها لصناعة عالم جديد، وما إذا كان لممارساته المتجانبة مع مقتضيات القيم وتطبيقاتها، تأثير على سلوك الأجيال القادمة وتمردها على كل المبادئ التي يعمل الجزء المعتدل منه على تحقيقها في مستقبل التنمية، وطبيعة الدور الذي يمكن أن تؤديه المنظمات الدولية كاليونسكو وغيرها في نهضة القيم وتأطيرها في التعامل مع التنوع الثقافي والأشكال التعبيرية الثقافية واللغوية والتراثية والاجتماعية للشعوب والحضارات؛ في ظل ما ترصده المعطيات وتبرزه المؤشرات من تأخر موقع القيم في منظومة العمل والتعامل الدولي، في ظل ممارسة أقرب إلى الاستحياء أو من طرف خفي، وهي معطيات تضع العالم أمام مسؤولية التعامل معها بعمق، والاحتكام إليها بوعي، في ظل نهضة ضمير القيم، ويتجسد معانيها في مبادئه وسياساته وممارساته ومنظومة قراراته، في التعامل مع أزماته وأحداثه ومستجداته وتحدياته، ليفهم خلالها موقعه، ويعي دوره، ويغتنم فرصة التطور الذي يشهده، في ظل نواميس القيم وموجهاتها الرشيدة الضابطة للممارسات والمقننة للأدوات، والداعمة لفرص التمكين للإنسان في الأرض. لذلك لم تكن القيم موجهات تعبيرية مجردة، بقدر ما هي نماذج حياتية تنشط ملكات الانسان وقدراته، وطاقة داعمة تدفعه للقمة، وترقى به نحو علياء الشموخ، عبر البحث عن سلم الأمن والسعادة، ومنطق النجاح والريادة، وفقا قواعد العيش ومفاهيم التصالح واصلاح الذات ، وتحتكم إليها كل الممارسات التي تنشد الاستمرارية، والتحول وخلق التفرد في السلوك، ليواصل بها الإنسان مشوار وجوده على بصيرة من الأمر، يبني خلالها ذاته وينطلق ليتفاعل إيجابا مع عالمه، فتُكسبه قوة في الضمير، واخلاصا في العمل، وتخلق منه انسان اخر، يتسم بقوة المبدأ، وحكمة الرأي، وسلامة الفكر، وسلاسة التعامل، وسمو الخصال ورقي الأفكار، حتى تنطبع على سلوكياته وأفكاره وقناعاته وقلبه وعقله وقلمه وبنانه ولسانه، لتبني فيه حياة الشغف والمبادرة والقدوة والمغامرة والبحث، فيقوى حضورها في نفسه، ويتأصل منظورها المتسامح، وغايتها المتسامية ، وأولويتها المتناغمة مع رغباته العليا، تصقل مهاراته، وتبني شخصيته ، وترقى بفكره، وتنهض بسواعد العطاء لديه.
من هنا كان نفوق القيم كارثة إنسانية، وجريمة تختزل كل ألوان الحياة الجميلة، وأذواقها المتنوعة، وترسم علامات الحزن والكآبة والألم في المجتمعات التي وصلت فيها القيم الى حد الغربة، وانتزعت من ضمير الانسان مسارات بقائها، ومقومات ثباتها، ومدخلات التغيير فيها، فضاقت بسبب نفوقها حياة الناس، وأثرت على طموحاتهم وقناعاتهم وانجازاتهم ومفاهيم الحياة القائمة على التكامل والتعاون والحوار، فتحول الطموح إلى تجاوز واستهتار على حساب الوطن والأخلاق والفضيلة، وقد يحصل عليه أحدهم عبر سلطة القسوة والقتل والتدمير واغراق الأوطان بالفتن والمذهبيات والحروب، ضاربة بالصفح والتسامح والحوار والتصالح عرض الحائط ، لتعيش الانسانية على الرغم مما تنعم فيه من خيرات وتقدم علمي وتكنولوجي في مجالات التقنية والطب والهندسة والاحياء والعلوم والفضاء، حياة الرعب والخوف، وفقدان الثقة وضعف مبدأ الحوار، في ظل انعدام تحقيق معادلة التعايش، والتخلي عن مسألة قسوة السلطة وعظمة الأنا، والاعتراف بالآخر، وجلد الذات أو الوصول إلى حلول متكافئة لقضايا الإنسان في أمنه وبيئته وطعامه ومائه وفضائه؛ لتدور كل المحاولات الترقيعية أو التصحيحية إن وجدت، في دائرة ضيقة عنوانها المصالح، واسلوبها تعميق الخلاف، وإشعال الفتنة والاشاعة، في ظل أفكار سلبية، وقناعات معادية للحياة، وتناقضات تضع الشباب في حيرة مقيتة واختلال في البناء الفكري لديه.
في ظل هذه الغوغائية من الاندفاع والطيش والتسرّع والحماقات التي ترتكب في حق الأوطان والإنسان وتقارب الشعوب، كان على العالم المعتدل البحث في منظور القيم وإعادتها إلى حظيرة الاعتراف والتأسيس لها لنيل الاستحقاق ، في ظل حياة تحتضنها القيم وتديرها الأخلاق وتبنيها المبادئ الراقية، في مواجهة حالات الترويع والارهاب والحصار، عبر الاهتمام بالقيم، منطلق لمبادئه وسياساته ومنظومة عمله وطريقة تعامله مع أحداث العالم ، وقراءته لمفهوم السيادة والتعاون والشراكة والمواطنة والحقوق والتعايش والحوار والسلام والوئام، وفي صياغة منظومة القرارات الدولية، ومبادئ السلم والتعاون الدولي، لتصبح محور عمل أجندته الاعلامية والتعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية ، كالطائر الذي يحلق في فضاءات الكون الواسعة ، ويستكشف طريق الأمل والعلم والعمل في حياة الانسان، ويمهد لبناء السعادة وتحقيق الاستقرار والاطمئنان، إن القيم بذلك منارات تصحيح لكل مسارات الإنسان واخطائه وتحولاته وأنماط سلوكه ومحددات حياته، وإدارة الملفات العالقة بين دول العالم، أو التأزمات الحاصلة بين بلدانه، ومعالجة حالة الاحتقان الناتجة عن ازدواجية السياسة الدولية في التعامل مع بعضها، على أنّ إعادة تجديد نهضة القيم وصياغة عالمها الجديد ، مرهون بامتلاك العالم لروح التغيير لصالح القيم، وقناعته بأنها الطريق الأمثل للعيش في عالم مضطرب، متباين الأهداف، متغاير التوجهات، ليصنع من نفسه قدوة للأجيال القادمة في إزالة حاجز النفرة منها، والسلبية الناتجة عن المفاهيم المغلوطة التي باتت تقرأ القيم في مضامين الإعلانات والدعاية والتناقضات الاعلامية التي يبرزها الاعلام السلبي في واقع حياة الشباب، علي فإن اتفاقا عالميا في إعادة منظومة القيم إلى موقعها الأساسي، هو الكفيل بتحرير العالم من عبادة المصلحة، وعادة تمجيد السلبية، وبراثن الارهاب والفكر السلبي، ومصادرة الفكر والتعدي على الخصوصيات وسيادة الأوطان ومشترك الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى